أصبح الاقتصاد العالمي برمته رهينة الأوضاع المالية الهشة في بلدان الاتحاد الأوروبي، وبلدان منطقة اليورو منها على نحو خاص . ويمكن ملاحظة ذلك من خلال مراقبة حركة أسواق المال العالمية، فهي تبدأ تداولاتها اليومية على وقع آخر أنباء اليورو ومصير خطة الإنقاذ الثانية لليونان ووضع المصارف والمؤسسات المالية الأوروبية المتورطة حتى النخاع في ديون مشكوك في تحصيلها من معظم البلدان الأعضاء في منطقة اليورو .
وعلى ذلك فإن الموضوع الرئيسي المطروح على أجندات الاجتماعات واللقاءات الدولية، هو الأزمة المالية الأوروبية، فبعد القمة الأوروبية التي كرّست لإنقاذ اليونان من السقوط جاء الدور على قمة العشرين . . وهكذا وكأن العالم أصبح اليوم على موعد، تقترب لحظته وتبتعد، من أزمة مالية عالمية عاصفة وقودها هذه المرة الأزمة المالية/الاقتصادية الأوروبية المركبة، وكبش فداها اليونان، بعد أن كانت الأزمة المالية/الاقتصادية الأمريكية وقود الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية عام 2008 وفتيلها مصرف ليمان براذرز .
ليست أسواق المال العالمية فقط هي التي صارت تعمل مثل الترمومتر لقياس حالة التذبذبات الحادة والقلق والريبة من الأداء الهزيل للاقتصادات التي كانت يوماً قائدة حركة ومحفزة نمو الاقتصاد العالمي . فأصحاب الأموال بمختلف أنواعهم، مستثمرين مباشرين وغير مباشرين ومضاربين، هم أيضاً في حيرة من أمرهم تتجلى في قراراتهم الفجائية التي تمليها ظروف تداعيات الأزمة في المراكز الرأسمالية .
ففي ضوء أنباء اليورو المهدد من أكثر من مصدر ضعيف في منطقة اليورو، يقرر المستثمرون الابتعاد عنه والتحول إلى الدور الأمريكي وسط توقعات بأن ينحدر سعر صرف اليورو ليعادل سعر صرف الدولار .
وذلك إما بسبب اضطرار البنك المركزي الأوروبي لطباعة مزيد من اليورو بصورة مفرطة، أو أن يقوم بتبني سياسة نقدية “مرنة”، إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وذلك لإنشاء صندوق إنقاذ يمكنه شراء السندات الحكومية للدول المأزومة مالياً في منطقة اليورو . والتحول للدولار هنا ليس اختياراً وإنما اضطرار .
المسألة جدا خطرة، وخطرها لن يقتصر على إقليم اقتصادي بعينه من دون سواه – الاتحاد الأوروبي كما هو مفترض- وإنما سيطال حتى البلدان التي تتمتع بموارد جيدة لاستيعاب صدمة الأزمة المالية المتجددة إن وقعت، بدليل أنه حتى الاقتصادات الصاعدة شهدت في الأسبوع الأخير من سبتمبر/ أيلول الماضي موجة نزوح للمستثمرين من أسواقها قُدِّرت بنحو 6 مليار دولار نفذتها خلال خمسة أيام صناديق أسهم الاستثمار وصناديق الدخول الثابتة، وهو ما لم يحدث منذ عام 2004 .
كما تراجعت أسعار صرف عملات أكبر 25 سوقاً صاعداً مقابل الدولار خلال الشهر نفسه، حيث انخفض الريال البرازيلي بنسبة 14،3%، و”رائد” جنوب إفريقيا بنسبة 13،1%، والروبل الروسي بنسبة 10،6% .
روان وليامز، رئيس أساقفة كانتربري، كتب مقالاً في “الفاينانشال تايمز” البريطانية في عددها الصادر 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 حمل عنواناً موحياً “لقد حان الوقت لتغيير الألوهية المزيفة لرأس المال المالي الكبير”، وذلك تعليقاً على المعتصمين أمام كاتدرائية سانت بول ضمن موجة الاحتجاجات التي تشهدها بريطانيا (والعديد من عواصم الغرب) ضد تغول رأس المال المالي ورأس المال البنكي، وضد السياسات الاقتصادية الحكومية المفصلة لخدمة رأس المال على حساب الأغلبية العظمى من الشعب .
يقول وليامز في مقالته إن أعداداً غفيرة من الشعب ضاقت ذرعاً بالمؤسسة المالية ولامسؤوليتها وعودتها لوتيرة عملها المعتادة وكأن شيئاً لم يكن، حيث عادت مكافآت تنفيذييها للدوران حتى عاد المجتمع برمته من جديد لدفع أخطاء ولامسؤولية أصحاب ومديري البنوك ومحافظ الصناديق المالية .
المقال عبارة عن بيان رسمي لكاتدرائية كانتربري أراد منه كبير أساقفتها أن يدافع عن موقف هذه الكنيسة المحسوبة على الرومان الكاثوليك في إنجلترا وعن صمتها إزاء الاحتجاجات الاجتماعية ضد جشع الرأسمالية . وهو إذ يؤكد تفهم الكنيسة الكاثوليكية الإنجليزية لغضب وسخط المحتجين، فإنه يستند إلى وثيقة أصدرها المجلس البابوي للعدالة والسلام بمقر البابوية في الفاتيكان أواخر الشهر الماضي، تحت عنوان: “نحو إصلاح الأنظمة المالية والنقدية العالمية في إطار سلطة عالمية شعبية”، وقد احتوت هذه الوثيقة على ثلاثة مقترحات أساسية بهذا الخصوص .
وتشمل المقترحات أنه يجب فصل العمليات البنكية الاعتيادية الروتينية عن أعمال المضاربة البنكية، فمن غير المعقول ولا المقبول إقحام أموال الصيرفة الجزئية بما فيها أموال الأفراد وودائع مدخراتهم في عمليات مضاربة عالية المخاطرة . كما يجب إعادة رسملة البنوك بمساعدة المال العام على أن تقوم في المقابل بالمساعدة على إنهاض الاقتصاد الحقيقي .
وتتضمن المقترحات فرض ضريبة مقدارها 0،05% على العمليات المصرفية والمالية تشمل عمليات الاتجار في الأسهم والسندات والعملات ومشتقاتها، بحيث توجه الأموال المجمعة من هذا المصدر للاستثمار في الاقتصاد الحقيقي، محلياً وعالمياً .
وهكذا وإلى أن تنجح أوروبا في لملمة صفوفها خصوصاً الدول السبع عشرة الأعضاء في منطقة اليورو (Euro Zone) والتي تشكّل دعامة الاتحاد الأوروبي ببلدانه السبعة والعشرين، وتعيد الإمساك بمفاتيح قواعدها الاقتصادية، وتتوافق على الإجراءات المنسقة لتفادي الانزلاق بعيداً في هاوية الأزمة المالية والاقتصادية، فإنها ستبقى تشكّل، إلى حين، تهديداً بالغ الخطورة للمنظومة الاقتصادية العالمية .
3 ديسمبر 2011