التجارب الناجحة خلال العقود الماضية لانتقال الدول من الحالة الاستبدادية إلى الحالة الديمقراطية تنقسم إلى نوعين بشكل أساسي، إذ نرى في شرق آسيا (تايوان وكوريا الجنوبية مثلاً) أن الإصلاح الاقتصادي ومكافحة الفساد المالي وانتهاج مسار تنمية مستدامة أدى إلى نشوء طبقة متوسطة قوية قامت بإحداث إصلاح سياسي ليتواكب مع المنجزات الاقتصادية.
نهج آخر تمثل بوضوح فيما حدث في أميركا اللاتينية، إذ إن الإصلاح السياسي هناك بدأ قبل الإصلاح الاقتصادي، وسرعان ما تحركت عجلة الاقتصاد هناك لتواكب التطور السياسي. وهذا يشير إلى الانتقال للديمقراطية، فإنما هو نهج متكامل، قد يبدأ اقتصادياً وينتهي سياسياً، وقد يكون العكس، وذلك لأن التفاعل بين التغيير السياسي والإصلاحات والأداء الاقتصادي يأتي ضمن إطار موحد لضمان نجاح المرحلة الانتقالية من حالة «الدولة الاستبدادية» إلى حالة «الدولة الديمقراطية».
في كل التجارب الإنسانية، يبرز الإصلاح السياسي باعتباره العامل الأكثر أهمية من ناحية السرعة والشمولية مقارنة بمسار الإصلاح الاقتصادي. الدول العربية كانت تطرح بأن حكامها وشعوبها مستثنون من تاريخ الأمم، وأن حالتهم الخاصة تعني أن الديمقراطية موضوع لا يخصهم، وأن شعوبهم لا يمكنها أن تكون ديمقراطية. وهذا الطرح الرسمي العربي كان يتوافق مع الطرح الرسمي الإسرائيلي، الذي كان يقول بأن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأن دول العالم المتقدم لا يمكنها أن تستغني عنها وتعوضها بنظم متخلفة.
جاء الربيع العربي ليبدد الأطروحات الرسمية غير الصحيحة… ففي تونس، مثلاً، نرى أن هذه الدولة العربية حققت إنجازاً ملحوظاً في خلق طبقة متوسطة (ربما أن 80 في المئة من التونسيين متشابهون في المستوى التعليمي والصحي والسكني)، وهذه الطبقة كانت ممنوعة من السياسة، وكان رئيس المخابرات السابق زين العابدين بن علي قد حول نفسه إلى رئيس مستبد مدى الحياة، إلا أن الشعب التونسي أراد الحياة واختار الكرامة فاستجاب له القدر، وتمكن الشعب التونسي من تبديد نظرية الاستثناء العربية.
ولكن داخل فكرة الاستثناء العربي، هناك فكرة أخرى تقول بأن الخليج العربي مستثنى بصورة مضاعفة من حركة التاريخ، وأنه من المستحيل أن ترغب شعوب الخليج في ديمقراطية لا تتناسب مع العادات والتقاليد، وأنه من المستحيل أن تطمح شعوب الخليج في أن تكون مثل شعوب شرق آسيا أو أميركا اللاتينية. وتطرح هذه الفكرة عوامل إضافية لا تتوافر للدول العربية الأخرى، وهي اعتماد هذه الدول على النفط، وأن عائدات الذهب الأسود بإمكانها إسكات (أو شراء) العالم وإسكات (أو شراء) الشعوب الخليجية الصغيرة نسبياً في عددها والتي تعتمد على عمالة رخيصة مستوردة من الخارج لتسيير شئونها اليومية. ويضيف أصحاب هذه الفكرة أن دول الخليج تخضع لتقسيم صارم على مستوى الدولة والمجتمع لاعتبارات قبلية وطائفية لا علاقة لها بتطور الإنسانية في عالم السياسة والاقتصاد، وعليه فإنه يتوجب اعتماد هذه الاستثنائية في كتب العلوم السياسية، بصفتها قدراً محتوماً على الخليج.
إننا من الذين يؤمنون بعالمية ووحدة الفطرة الإنسانية، وأن هذه الفطرة السليمة تنزع نحو العيش بكرامة والتنعم بحرية التعبير من دون إيذاء أو إهانة، وأن هذه الفطرة الإنسانية ترفض كل أنواع الأساطير التي تتحدث عن استثناءات عن النوع البشري، فنحن جزء لا يتجزأ من التجارب الإنسانية، ونحن لسنا استثناءً من التاريخ
صحيفة الوسط البحرينية – 05 ديسمبر 2011م