في شهر يونيو الماضي شُكلت وبأمر ملكي اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق الخطوة الشجاعة غير المسبوقة في العالم العربي. واليوم وبعد ان توصل تقرير اللجنة الى نتائج وتوصيات حظيت بترحيب كبير داخل وخارج البحرين فإن تشكيل اللجنة الوطنية المعنية بتوصيات تقرير لجنة تقصي الحقائق جاء تأكيداً لا لبس فيه على اصرار البحرين في تجاوز ازمتها، وبالتالي فإن تفعيل تلك التوصيات سيدشّن مرحلة جديدة في تاريخها السياسي المعاصر.
واذا كانت هناك حقائق مهمة توصّل إليها التقرير يضع الجميع في اطار المسؤولية فإن ما جاء من تأكيدات في كلمة جلالة الملك اثناء تسلّمه تقرير اللجنة يعد انطلاقه في طيّ صفحة كانت أكثر ألماً ووجعاً في حياة شعب البحرين. ومن اهم تلك التأكيدت («ان تقرير اللجنة يمنح البحرين فرصة تاريخية للتعامل مع اهم المسائل وأشدّها إلحاحاً». فالمسؤولون الذين لم يتقدموا بواجباتهم سيكونون عرضة للمحاسبة والاستبدال، وفوق هذا كله سنضع وننفذ الاصلاحات التي سترضي كافة اطياف مجتمعنا، وهذا هو الطريق الوحيد لتحقيق التوافق الوطني ومعالجة الشروخ التي صابت مجتمعنا». وفي مقابل ذلك اكبر.. ان البحرين عاقدة العزم على ضمان عدم تكرار الاحداث المؤلمة التي مر بها وطننا العزيز، وسنتعلم منها الدروس والعبر بما يعيننا ويحفزنا للتغيير والتطوير الايجابي)..
إذن فالخروج من الازمة بنجاح يتطلب تطوير العملية الاصلاحية على اساس الانفتاح الواسع على قضاء الحقوق والديمقراطية، وبالتأكيد ان هذا الانفتاح سوف يدفع عجلة التطوير والتحديث نحو البناء الديمقراطي المنشود. ولا شك ان خيار العدالة والانصاف والمصالحة الوطنية هو الخيار الاهم في هذا المرحلة التاريخية التي امتازت بها البحرين عن غيرها من الدول، وأن المراجعة لما حدث في البحرين يجعلها اكثر إشراقةً وتوهّجاً في سماء تسوية الازمات الداخلية.
لقد قيل وكتب الكثير عن اهمية التقرير وتحديداً عن توصيات اللجنة المستقلة التي بالتأكيد يتوقف نجاحها على مشاركة الجميع في تفعيلها، وبعبارة اخرى سيظل الحديث عن هذه التوصيات ناقصاً ما لم تفعّل هذه التوصيات على ارض الواقع.
هناك من يتحفظ على التوصيات فهذا من حقه، ولكن ان ترفض هذه التوصيات جملة وتفصيلاً لاعتبارها منحازة لطرف دون آخر فهذه مصيبة؛ لأن وبإيجاز شديد التوصيات تعد انتصاراً للبحرين، وبالتالي كيف تتعامل مع تلك التوصيات بحكمة ووعي سياسي يدرك مخاطر الاحكام المطلقة والسريعة، ويدرك كذلك كيف نتجنّب ضياع الفرص التاريخية هذه هي روح المسؤولية، وهذا هو مبدأ الحفاظ على المصالح الوطنية دون إهدار لمثل هذه الفرص. وعلى هذا الأساس فمراجعة أنفسنا مراجعة مسؤولة مستمدة من صوت العقل ومن التحليل العلمي الدقيق للواقع السياسي المحلي والإقليمي، هذا هو المطلوب الآن. ويذكرنا هذا بما حدث لمبادرة ولي العهد التي تطالب بها اليوم بعد ان تم رفضها في وقت كانت البحرين في أمس الحاجة لها، اي في وقت كانت الحلول الأمنية والتطرف والعنف والقتل وسقوط الضحايا ضاعف من الازمة، في حين كانت المبادرة التي اطلقها سمو ولي العهد تفتح الباب واسعاً نحو انفراج سياسي يساعد على تجاوز الازمة والخروج منها وفقاً لمبادئ الحوار الوطني التي تضمنتها مبادرة سموه.
لقد كشف تقرير اللجنة عن تجاوزات واضحة، وليس هنالك ما هو اكثر ألماً من تلك الانتهاكات، التي تتمثل في التعذيب لانتزاع الاعترافات والتعامل بقسوة مع المعتقلين السياسيين، والفصل التعسفي من الوظائف والمؤسسات التعليمية والعنف والتخريب، والاعتداء على رجال الامن والاضرار بالمصالح العامة والخاصة ونشر الخوف والذعر والهلع بين المواطنين والمقيمين، وإثارة الفتن الطائفية. كل ذلك أسهم في تأزيم الوضع السياسي في البلاد.
على أية حال لسنا هنا بصدد ذكر ما جاء في تقرير اللجنة الا ان ما يتبقى الحديث عنه هو ان تفعيل توصيات التقرير نأمل ان يكون الخطوة الأولى على طريق بناء الثقة المتبادلة في جو من المحبة والتسامح.. خطوة باتجاه البناء وتعزيز المسيرة الإصلاحية والوطنية لاعتبارها اهم أولويات المرحلة. أما الخطوة الأخرى والمهمة ايضاً ان تتفاعل القوى السياسية المعارضة مع نتائج التقرير لما له من أهمية قصوى في إعادة بناء البيت البحريني على قاعدة الوفاق الوطني والتماسك الاجتماعي والمصالحة وتمتين اللحمة الوطنية.
صحيفة الأيام 3 ديسمبر 2011