الإعصار الذي نقصده هنا هو بالضبط ما اصطلح على تسميته ب “الربيع العربي” منذ اندلاع شرارة الثورات العربية مطلع هذا العام، بدءاً من تونس لتتحول رياحه العاتية إلى مناطق أخرى بغية إحداث تحولات إصلاحية متباينة .
حتى الآن لم يتم جرد وتقييم “الأضرار والخسائر” التي ألحقها الإعصار بمكونات مؤسسة النظام الرسمي العربي، وهي أضرار وخسائر جسيمة على أية حال . ف “الإعصار” مازال مستمراً في بعض المناطق، ومازالت توقعات أجهزة الرصد السياسية في العالم العربي وخارجه، تذهب إلى أن الإعصار يمكن أن تنكسر قوة اندفاعه ويتباطأ، لكنه مازال يمتلك قوة دفع يمكن أن تحول مجراه باتجاهات أخرى .
وفي الحصاد يمكن القول إن تونس تبقى الحالة الوحيدة في “مخلفات” هذا الإعصار التي نجحت فيها تجربة الانتقال التدريجي والآمن من الثورة إلى الدولة . والدولة المقصودة هنا هي الدولة الجديدة بدستورها وقوانينها وتشريعاتها ومؤسساتها المشاركة في الثورة، والمعبرة عن آمال وطموحات الشرائح الأعرض من الشعب التونسي .
ففي تونس أوفت الحكومة المؤقتة المشرفة على ترتيبات عملية الانتقال من النظام السابق إلى النظام الديمقراطي ألتعددي الذي قامت من أجله الثورة، أوفت بالتزامها وتم إجراء الانتخابات للمجلس التأسيسي الذي سيضع دستوراً جديداً للبلاد وأساس التحولات الكبرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تونس الجديدة، وتم لأول مرة وضع نهاية للانتخابات المزورة وهيمنة الحزب الواحد على الحياة السياسية في البلاد .
وباستثناء التجربة التونسية التي وضعت رجلها على أولى عتبات العبور الناجح والآمن للمرحلة الانتقالية، فإن بقية تجارب الصحوة الشعبية العربية التي حاولت محاكاة ومجاراة التجربة التونسية في التحولات السياسية، مازالت تراوح مكانها بعد أن دخلت في طور الأزمة المستعصية غير المتمتعة بآفاق واضحة مشجعة تنبئ بقرب حلحلة استعصاءاتها .
فلقد أثبتت القوى الممانعة للتغيير والإصلاح أنها مازالت تحتفظ بمخزون وفير من ذخيرة مناوراتها السياسية المستخدمة بفاعلية لإطالة احتكارها الحصري للحكم، مستفيدة في ذلك من وجودها المُمأسس والنافذ في أجهزة التسيير والتوجيه كافة .
وتراوح مناوراتها ما بين مستويين طامحين إلى مراوغة استحقاقات التغيير، المستوى الأول يصل إلى حد اختطاف الثورة وإعادة توجيه مساراتها بما يفضي إلى استعادة زمام الأمور وتكريس حالة ما قبل الثورة، أما المستوى الثاني فيتعلق بالاضطرار إلى مسايرة “الحدث” والعمل بدهاء وبأقصى قدر من التسويف والمماطلة للتحايل سياسياً على استحقاقات التغيير، وصولاً إلى مستوى خفيض من الإصلاحات المنشودة يضمن في الوقت نفسه استمرار “الحالة الساكنة” .
ومن جديد ينهض الوقت كأحد العناصر التي تراهن عليها أطراف التنازع ما بين التشبث بتثبيت القديم، وما بين الإصرار على إصلاحه وتحديثه . ولكن عامل الوقت لم يعد عاملاً منفرداً بحد ذاته للرهان عليه، فهو ليس معزولاً عن “بارومترات” موضوعية أصبحت أساسية في معادلة “قوى سوق” التغيير “عرضاً وطلباً” في العالم العربي، ونخص منها بالذكر المتغير الإقليمي والمتغير الدولي اللذين أصبحا حاضرين بقوة في تجاذبات أطراف وعمليات التغيير و”أعمال الترميم” الجارية هنا وهناك، وذلك بإيقاع مضبوط ومحسوب على مقاسات مصالح القوى المحلية (المستفيدة والمتضررة من التحولات) والإقليمية والدولية .
وما بين عملية الشد والجذب هذه، يخال للمرء المراقب وكأن المنطقة قد دخلت مرحلة فيها من انعدام الوزن واللايقين أكثر مما فيها من وضوح الرؤية وأفقها الواعد . هي مرحلة يمكن أن نقاربها توصيفاً بمرحلة إعادة هيكلة سياسية تراوح ما بين إعادة الهيكلة السياسية الكلية وما بين إعادة توفيق أوضاع سياسية هيكلية . فالتغيير، بهذا الاتجاه أو ذاك، حسبما تمليه الظروف الموضوعية والذاتية المحيطة، لم يعد بالإمكان تفاديه في ضوء المستجدات العالمية الكبرى المداهمة التي تغذيها، كما صار واضحاً، نزعة كونية غالبة لإطلاق موجة تغييرات هيكلية جديدة حدودها الدنيا “توفيق أوضاع” قابلة لاستيعاب استحقاقات المرحلة الجديدة الجارية والمقبلة من العولمة، خصوصاً في شقها الاقتصادي المتأزم والمتجسد في ظاهرة اللاتوازن الاقتصادي العالمي التي حولت شروط وعوامل النمو والازدهار الاقتصادي من الغرب إلى الشرق، والتي لم تعد العلاجات والمسكّنات الاقتصادية كافية لإعادة تصويب بوصلتها، فكان لابد من استحضار البنى الفوقية، لا سيما السياسة وجميع أدواتها الفاعلة التي مازال الغرب يتفوق على الشرق فيها ويجيد استخدامها وتوظيفها على النحو “المبدع والمبتكر” الذي نشهده الآن .
السؤال الآن: أين أصبح الشباب الذين شكلوا العمود الفقري لإطلاق هذه الموجة من التحولات الهيكلية السياسية التي بدأت عربية لكنها سرعان ما ألهمت الحركات الاجتماعية في المراكز الرأسمالية الكبرى، فتلقفتها ووطنتها لتتحول إلى حركة احتجاج معولمة (عالمية) ضد الإقصاء، إقصاء رأس المال للطبقات الوسطى والفقيرة وإقصاء الأغلبية الساحقة من الناس من القرارات الكبرى والصغرى المتعلقة بحياتهم العامة، وإقصاء وتهميش الأقليات . . أين هم الشباب من تداعيات ما بعد انطلاق موجات احتجاجاتهم؟ هل مازالت لهم كلمة ليقولوها أم أن دوراً كان لهم وانتهى؟
حرر في 25 نوفمبر 2011