بعض الكتابات التي تناولت «الثورات» أو «الانتفاضات» العربية التي تشهدها أكثر من بقعة عربية، بما فيها الحراك السياسي الشعبي في البحرين، هذه الكتابات وهي تتحدث عن بعض مخاطر السلبيات المرافقة لهذه التحركات الشعبية المطالبة بالتغيير والإصلاح، قامت بتوزيع «التحرك» على ثلاث مجموعات، أولها «مفرح» ومثاله تونس ومصر، وبعضها «مقلق» كما هو في ليبيا واليمن وسورية، وآخرها «محزن» كما هو في البحرين، حيث تحوّل الأمر إلى نزاع طائفي وصراع إقليمي كانت ضحيته حركة البحرين ومطالب شعبها المحقة في الديمقراطية (اقرأ صبحي غندور… رؤية عروبية لمتغيرات عربية).
دعونا نتوقف عند آخرها هذا «المحزن» أولاً لأنه يتعلق بقضيتنا، وثانياً لأنه ينكأ جرحاً غائراً في جسد وطننا، وأخيراً لأنه يستبطن «تهمة» تحمل الحراك الشعبي مسئولية بروز الانقسامات الطائفية الأهلية في المجتمع البحريني.
بداية علينا أن نقر بأن شعب البحرين كغيره من الشعوب المتطلعة إلى مستقبل أفضل عندما يتحرك مطالباً بالتغيير الديمقراطي السلمي، ويدعو إلى وجود عدالة سياسية واجتماعية وينشد الكرامة لكل المواطنين، إنما يسعى إلى تقريب المسافة بينه وبين ذاك المستقبل الذي يحلم به وينشده من أجل وطن موحد ومستقر، وشعب واحد متحاب.
إذاً، هذا التوصيف للحراك لا يقبل أي «تلفيق» أو تشويه، فالحراك الوطني الشعبي بمثل هذه الغايات النبيلة يصبح قوة تغيير إيجابية ومطلوبة، لا تشوبها أية شائبة، وخصوصاً إذا جاء بعد قناعات بأنه الوسيلة التي لا مناص منها لحصول التغيير المطلوب، وفي ظل انسداد كل الآفاق أمام الإصلاحات السياسية والدستورية الحقيقية، وانعدام الأجواء الصحيحة والسليمة لإجراء حوار وطني حقيقي.
في ضوء هذا الاستنتاج المنطقي، يصبح لا معنى لتوجيه أية تهمة، أو إلصاق أية شبهة طائفية أو عنصرية بهذا الحراك، وسيكون من التجني نسب التوترات الاجتماعية والتداعيات الطائفية الحاصلة اليوم في البلاد له، وكأنه هو المسئول عن بروزها. وإذا ما أحسنا الظن في نوايا من يقول بهذا الطرح، فلا أقل من وصف ذلك بالسذاجة المفرطة، انطلاقاً من إقرارنا مع من يقول بحدوث بعض الممارسات الخاطئة، وحصول بعض التجاوزات في نوعية الشعارات والعناوين التي لم تكن تحظى بقبول وتوافق الجميع، بما فيها الجمعيات السياسية المعارضة التي شاركت في هذا الحراك.
إلا أن هذا الأمر يجب ألا يجعل أي مراقب أو متابع للأحداث وتطوراتها، يتجاهل أو يغفل عن النوايا والمقاصد المبيتة أصلاً لضرب وتصفية هذا الحراك من خلال الإصرار على الخيار الأمني، الذي تأكد منذ الضربة الأولى للمتظاهرين، وقادت إلى سقوط عدد من الضحايا والجرحى، ودفعت بالوضع نحو مزيد من التأزم. كما أن هذه النوايا تنطلق من رغبة جامحة في محاصرة الحراك الشعبي وتصويره على أنه صراع بين طوائف، وتخويف هذه الطائفة من تلك لإبقاء الأوضاع القائمة على ما هي عليه من دون إصلاح، لأنها تخدم مصالح ونفوذ أصحاب هذا التوجه وتزيد من مكاسبهم.
إن هذا هو ما يفسر الاندفاع المحموم لتشويه الحراك الشعبي والإساءة إلى المشاركين فيه سياسياً وإعلامياً، وكذلك الإصرار على جر الخلافات إلى مسارات تصادمية، وتحويلها إلى بؤر صراعات أهلية وطائفية، من دون اكتراث بما يلحق بالوحدة الوطنية من تصدع وتفكك. وقد وجدنا بعض عناصر هذه الفئة تشطح في تخرصاتها، ونشر سمومها الطائفية في المجتمع وهي تتحدث عن أهداف هذا التحرك، والادعاء بأن الجمعيات السياسية قد طالبت بالتدخل الأجنبي في البلاد، وزعم أحدهم أنه سمع ذلك شخصياً من بعض قيادات الجمعيات، وهو لم يكن بالأصل حاضراً الاجتماع، وتمادياً في سلوك هذا الخطاب الاستفزازي، القائم على التحريض والتخوين والكراهية للطرف الآخر. وهو الخطاب ذاته المسئول أولاً وأخيراً عن حجم ما وصلت إليه العلاقات الاجتماعية بين أطياف المجتمع من تشويه وتدمير، وهو المسئول بالتالي عن تحويل الحراك الشعبي إلى أداة تفجير اجتماعية وأمنية. (سيأتي يوماً نتناول حقائق هذا الاجتماع المفصلي). وللحديث صلة..
صحيفة الوسط البحرينية – الثلثاء 15 نوفمبر 2011م
الحراك الشعبي ومسألة التعددية
مسألة أخرى على صلة وثيقة بالحقائق التي أشرنا إليها في المقالة السابقة الثلثاء الماضي، يحسن التوقف عندها، وهي مسألة «التعددية» على مختلف أشكالها، في المجتمع البحريني، ونعني بها التنوع بكل عناوينه المذهبية والسياسية والقبلية والمناطقية! فهذه التعددية هي من الحقائق الراسخة في بلدنا، وهي تمثل إحدى موروثات الجغرافيا، وبعض شواهد التاريخ، والتي ستبقى موجودة في كل الأزمان، أي لسنا نحن من أوجدها، ولسنا من يمتلك القدرة على تغييرها، ولكن الذي لا يقبل الجدال هو أننا حتماً مسئولون عن طريقة التعامل أو التعاطي مع هذه التعددية، من الزاوية الإنسانية والاجتماعية، وعن طريق إدارة الاختلافات التي يفرزها هذا الواقع التعددي.
فالمجتمع البحريني مثله مثل بقية المجتمعات التي تتسم بالتعددية وتمر بفترات من التحول والتغيير، وسيكون هناك دائماً صراع بين قوى التغيير والدفع إلى الأمام (المستقبل) وبين قوى الشد العكسي (استمرار الحاضر)… والحراك الشعبي البحريني في إطار هذا الفهم هو عند أي قارئ منصف للتاريخ، وأي متعاطف مع إرادة الشعوب في الإصلاح والتطور، سينظر إليه باعتباره إحدى المحطات المهمة في مسيرة هذا الصراع القائم دائماً وأبداً بين قوى التغيير وقوى المحافظة أو المساندة للوضع القائم… وبالتالي فإن هذا الصراع الاجتماعي والأهلي وكل التوتر الطائفي الذي نراه اليوم، وكل هذه الانقسامات والولاءات المذهبية والقبلية التي اندفعت إلى السطح مرة واحدة، وبهذه القوة والخطورة، كانت من دون شك مستقرة أو خامدة في عمق المجتمع تنتظر الفرصة للانفجار والانشطار لتحرق شظاياها المتطايرة الجميع من دون استثناء وهو ما يعني في واقع الأمر أن الدولة وعلى مدى عقود من الزمن قد عجزت عن إنجاز مهمة صهر هذه الولاءات وطنياً في بوتقة دولة المواطنة والقانون، وفشلت في تحويل التنوع والتعدد إلى مصدر قوة أو الارتقاء به إلى مصاف التنوع الإيجابي الذي يثري المجتمع والسبب طبعاً يعود إلى المناخ السياسي السائد في البلاد على مدى عقود طويلة، من غياب قيم العدالة والمساواة، واعتماد سياسات تمييزية بين أبناء الوطن الواحد، وهذه جميعها عناصر تغذي الانقسامات والولاءات الفرعية وتطيل من عمرها كما يؤكد ذلك علماء الفكر والاجتماع (انظر خالد الحروب القبيلة والطائفية قبل الثورات وبعدها – صحيفة «الحياة» العدد 17747، 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011م).
وفق هذه الرؤية فإن كل ما فعله الحراك الشعبي في البحرين هو هز أو خلخلة هذه الأوضاع الراكدة، وكشف المستور منها، بمعنى أنه جعل كل الانقسامات الطائفية والاختلالات الاجتماعية المختبئة تحت السطح، تطفو وتقفز إلى الواجهة لتكون في وجه الشمس لتضيء بأنوارها بعض المواقع «المعتمة» وتزيل بحرارتها المساحيق التجميلية عن بعض الوجوه المتخفية وراء مظاهر زائفة.
وماذا بعد؟
نقول: على رغم قسوة الوضع الذي يمر به بلدنا حالياً، وعلى رغم شدة الآلام النازفة التي يعاني منها مجتمعنا، والأثمان الباهظة التي دفعها وطننا، مازلنا نرى ضوءًا في آخر النفق وكما يقال: «في شدة الضيق بعض الفرج»، «وبعض الخير يكمن فيما نكره»! فاليوم هناك فرصة لمقاربة الأوضاع السيئة التي فجرت الصراع والبدء في معالجتها بصورة صحيحة وحازمة، ولا سبيل إلى ذلك من دون توفر الوعي الوطني العام، ووجود الإرادة السياسية الصادقة، التي ترمي إلى استيعاب كل الاختلافات والانقسامات بين مكونات وأطياف المجتمع بصورة عادلة ومتكافئة بحيث يتحول الاختلاف أو التنوع إلى مصدر قوة للدولة وللمجتمع، على حد سواء.
وقبل ذلك لابد من الإقرار والاعتراف بأن البلاد تعاني من عطب سياسي وخلل اجتماعي في البناء الداخلي يحتاج إلى معالجة سريعة من خلال إعادة صياغة أسس ومقومات الدولة لترسيخ دولة المواطنة الحاضنة للجميع.
صحيح أن بناء بعض هذه الأسس يحتاج إلى وقت إلا أن من المهم أن تكون البدايات سليمة والنوايا صادقة، والأهداف معلنة وصريحة، وآليات الوصول إليها صحيحة، في إطار خريطة طريق تبين الأهداف وتحدد فترات التنفيذ. أما من حيث الأهداف فتتلخص في بناء دولة ديمقراطية دستورية تقوم على المساواة التامة بين جميع المواطنين بغض النظر عن أصولهم وطوائفهم ودياناتهم، أما الآليات، فتتمثل في الحرية والفرص المتكافئة والعادلة لكل المواطنين وسيادة القانون الذي يحمي الأفراد ويصون كرامتهم بما يعزز الوعي عندهم بأن الدولة وحدها هي من يحمي حقوقهم ويرعى مصالحهم، هذا ما فعلته كل المجتمعات الديمقراطية التي حسمت هذه القضية عبر اللجوء إلى الخيار الدستوري.
وأخيراً، لابد من اتخاذ بعض الخطوات التمهيدية الجريئة من قبيل تقليم أظافر كل الطائفيات المستشرية ودعاتها، وخلع أسنانها التي راحت تنشبها في جسد الوطن من دون رحمة، ووقف «تغولها» الذي بات يجتاح المجتمع، وينذر بتحولها إلى دولة داخل الدولة، وتحويلها أي أزمة يمر بها المجتمع إلى براكين فتنة تحرق الأخضر واليابس، فالبحرين إذاً محتاجة إلى قرارات شجاعة وحازمة من الدولة والمعارضة معاً وكل قوى المجتمع لوقف هذا الانزلاق الخطير نحو الفوضى السياسية والاجتماعية والأمنية واستعادة الوطن الذاهب إلى المجهول… قبل فوات الأوان
صحيفة الوسط البحرينية – 17 نوفمبر 2011م