إذا كان ثمة نية حقيقية لإظهار الجدية اللازمة التي تحسم وتردع الكثير من أوجه التجاوزات والمخالفات في مواقع شتى من مواقع المسؤولية العامة فخير البر عاجله، فها هو تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية المنتظر إن يكون مطروحا للنشر والتداول في الفترة القريبة المقبلة أم أبعد منها بقليل أو كثير.
وهو التقرير الذي يمكن أن يكون خارطة طريق واضحة المعالم على صعيد التصدي للخلل والقصور والانحراف وما يدخل في تعريف الفساد في أجهزة رسمية عدة. وكم هو ضروري وملح ومجدٍ ولازم اليوم التعامل مع «الارتكابات» و” تفريخ ” المخالفات الموثقة في التقرير، وما تضمنه كل تقرير سابق بشكل يعكس نهجاً جديدًا يتوافق مع تطلعات الناس ويرفع آمالهم بأن يروا شيئاً مختلفاً يؤكد الاقتناع بأصول المحاسبة العامة ولا يجعلها معطلة او تمارس بعكس المفروض، أو يجعلها عرضة لمناوشات ومزايدات واستعراضات من نواب كثر تتسم بالقحط تارة، وبازدراء ذكاء المواطن تارة أخرى.
مثل هذه التقارير في أعراف الدول المتحضرة ولدى هيئات ومنظمات دولية لها اعتبار، ولها وزن، ولها أهمية ونظرة خلاصتها وحصيلتها ايجابية، ولكن يبقى الأكثر أهمية، والأكثر إيجابية، والأكثر صدى في القلوب والنفوس هو الاستدراك ومعالجة مكامن الخلل والسلوكيات الحاضنة للفساد بطريقة حكيمة وحاسمة وملموسة تتجاوز كل المآخذ والاعتراضات وتتماشى مع كل ما يعيد الاعتبار لقيم النزاهة والشفافية والمساءلة والمحاسبة والقانون، وهي القيم التي تلح الحاجة إليها بشكل استثنائي لعلنا نعيد الأمور إلى نصابها.
عاجلاً أم آجلا سيطل علينا التقرير الجديد، ولا يفرط المرء في الاعتقاد بأن أصداء هذا التقرير لن تختلف عن تلك التي عهدناها، إما اعتصام بالصمت والسكون من قبل جهات رسمية، وإما ردود من جهات أخرى وشروع وتبريرات مرتبكة غير مقنعة لتسويغ او تسويق بعض التجاوزات، وإما سلسلة من التهديد والوعيد والمزايدات وإثارة الضجيج والمشاعر من أصحاب الصوت العالي من نواب ومن يعدون أنفسهم نشطاء أو قوى مجتمعية، وبوسعنا ان نستخرج من الذاكرة ومن أرشيف جرائدنا ما لا حصر له من التصريحات والمواقف البهلوانية والهزلية التي هي إجمالا إن عبرت عن شيء فإنما تعبر برأينا عن صورة عجز فوق العادة حيال الفعل ورد الفعل وإزاء دور النواب الذي لا يشفي الغليل، ولا يترجم حتى أدنى الحدود للدور الرقابي الفعلي المطلوب، ولا حتى المسؤوليات والواجبات التي لا تحصى التي يتعين ان يقوموا بها وخصوصا وتحديداً على صعيد معركة الوطن ضد الفساد والتي نحسب انها مفتاح قلوب البحرينيين الذين يجدون في الفساد هماً، وأي هم، هم ثقيل الدم والوطأة والهاجس، خاصة في هذا الوقت، وهذا الظرف الذي يجعل من واجب الوجوب إعمال العقل والقلب والضمير.
من الأساس ما هو متوقع ومنتظر اليوم أن نبدأ البداية الصحيحة في التعاطي مع التقرير الجديد للرقابة، ولكن السؤال الذي نراه ملحاً على الدوام، هل نحن بصدد البدء حقا..؟! وبعد هذا السؤال سنجد أن المشهد مسكون بسؤال تلو سؤال: هل يمكن ان يكشف كل تقرير تجاوزات صارخة ويتجنب ذكر المتجاوزين..؟! وهل يمكن التطرق الى عبث بالمال العام من دون تحديد العابثين؟ وهل يمكن رصد مظاهر فساد دون إشارة إلى الضالعين فيها..؟! وهل ما تكشف عنه هذه التقارير هي كل الحقيقة..؟
تلك الأسئلة معطوفة بأسئلة أخرى من نوع: لماذا لم يحاسب أحد على ما جرى..؟، ولماذا ظل من يقف وراء تجاوزات أو مخالفات ثابتًا في موقعه، وكأن شيئا لم يكن؟، ألم يحن بعد وقت الدخول في ملكوت الحسم والردع والمساءلة والحساب؟
تلك بعض الأسئلة والتساؤلات ليس إلا، وما كان أن تطرح أصلا لو لم تكن هناك حيرة استبدت بنا ومازالت لأسباب مفهومة بطبيعة الحال، بعد أن وجدنا أصداء تقرير تلو تقرير تراوح في مكانها، ولم تؤدِ الى شيء يشفي الغليل. وأخشى ما نخشاه ان يظل التعاطي مع التقرير الجديد كما في السابق، معبرا عن العجز، عجز من هم في السلطة التنفيذية وعجز النواب بوجه أخص عن إدراك بأنه لا التوقيت ولا الظرف، ولا التوجه، ولا حتى مخرجات حوار التوافق الوطني فيما يخص الإصلاح ومحاربة الفساد يسمح لنا باستمرارية العبث بمفردات وعناوين ومقومات ومتطلبات قيمة المساءلة التي لم يفرض حضورها بما يكفي ويلزم في ساحة الأداء العام حتى الآن.
تابعوا بكثير من الانتباه والتركيز أصداء التقرير الجديد.. ومرحى لشجاعة الحسم بلا مواربة او تأويل، وإشهار سيف المساءلة والمحاسبة على الأقل من باب إبراء الذمة فعجلوا بالحسم ..!
الأيام – 15 نوفمبر 2011