ظل الحديث الذي كان يثار بين آنية وأخرى بصورة مبتسرة وخاطفة إبان الشهور الثمانية من عمر الحرب الأهلية التي اندلعت في ليبيا في أعقاب انضمام الشعب الليبي الى قافلة الشعوب العربية في ما صار يطلق عليه بالربيع العربي، بالثورة السلمية ضد نظام معمر القذافي الاستبدادي الذي حوَّل ليبيا هو وأسرته الى مزرعة خاصة، قبل أن تتحول هذه الانتفاضة السلمية التي اندلعت شرارتها الأولى في مدينة بنغازي في 17 فبراير الماضي، الى حرب أهلية ضروس تحولت فيها كافة المدن الليبية الى جبهات قتال بين فريق السلطة وبين الثائرين عليها، والذين نالوا دعما عسكريا واقتصاديا ولوجستيا وسياسيا حاسما من حلف الـ”ناتو” في تحقيق الانتصار على مقاتلي نظام معمر القذافي – نقول ظل الحديث عن وجود عناصر تابعة للقاعدة في صفوف المقاتلين ضد النظام الليبي، حديثا خافتا وعابرا لم يحظ بتسليط الأضواء الإعلامية عليه كما يجب أن يكون.
وكان هذا مقصودا بطبيعة الحال، فالأطراف، خصوصا منها الصانع الأكبر للحدث الليبي والأخرى المتورطة فيه، لم تكن بالتأكيد في وارد السماح لما يمكن أن يشوش على “خطة العمل” ويربكها، قبل أن تصل الى خواتيمها بإسقاط الحكم العائلي لمعمر القذافي.
أما وقد تحقق هدف “خطة العمل” بالقضاء على ما تبقى من جيش ومليشيا موالية للنظام الليبي السابق وتصفية رأس النظام (القذافي) على النحو البشع الذي شاهده العالم أجمع، ثم الكشف في وقت لاحق عن جريمة إعدام 25 من أنصاره بدم بارد في مدينة سرت، فلا مناص من أن يعاد تسليط الضوء على “التفخيخ” السلفي والقاعدي الذي تحفل به مجاميع المليشيات التي وفر لها حلف شمال الأطلسي كافة أشكال الدعم العسكري والمالي والاقتصادي والسياسي والدبلوماسي والإعلامي، بما في ذلك المشاركة الأطلسية المباشرة في القتال على الأرض في طرابلس وبقية المدن الليبية، من أجل “انجاز المهمة على الوجه الأكمل”.
ومع ذلك يمكن القول ان ما ارتكبه بعض المليشيات المسلحة من جرائم حرب إبان الثورة للإطاحة بحكم العقيد القذافي، قد بقي بشكل أو بآخر بمنأى عن الأضواء الإعلامية الكاشفة والإدانة الدولية المستحقة، وذلك اذا ما استثنينا النقل المتفرق والسريع لحادثة تصفية القذافي الوحشية في حينها والتي اختفت بدورها سريعا من التداول الإعلامي.
ان ما ارتكبه بعض ثوار ليبيا من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان قد لطخ بلا شك سمعتهم، فما نجحت عدسة المصورين في “اصطياده” يرقى الى الهمجية ولا يمكن مقارنته سوى بجرائم الحرب التي ارتكبت في الحروب الأهلية في بعض بلدان القارة السمراء مثل ليبيريا على سبيل المثال لا الحصر. فعندما استجوبت محكمة الجنايات الدولية في لاهاي الرئيس الليبيري تشارلز تيلر في يوليو عام 2009، تنصل واتهم برنس جونسون، وهو أحد أمراء الحرب المتحالفين معه والذين شاركوه الحرب الأهلية للإطاحة بالرئيس صامويل دو – اتهمه بأنه هو الذي قتل الرئيس صامويل دو، مع ان هناك شريط فيديو يظهر فيه تيلر وهو يحتسي علبة جعة ويأمر رجاله بقطع أذني الرئيس دو. وكانت لجنة الحقيقة والمصالحة في ليبيريا قد أدانت تيلر وجونسون وستة آخرين من أمراء الحرب الأهلية التي تواصلت على مدار أعوام 1989-2003 وحصدت أرواح ربع مليون ليبيري وشردت الملايين منهم.
وكان هؤلاء السفاحون قد قاموا يوم التاسع من سبتمبر من عام 1990 بتصفية الرئيس الليبيري صامويل دو بطريقة وحشية قطعوا خلالها أطرافه في العاصمة منروفيا. ومن المفارقة أن صامويل دو نفسه قد جاء الى السلطة بعد تصفية الرئيس السابق وليم تولبيرت قبل أن يستدير لتصفية رفاقه الذين شاركوه في المؤامرة الانقلابية في عام 1980.
أفلا يشبه ما فعله معارضو الرئيس الليبيري الراحل صمويل دو ما فعله ثوار ليبيا مع الرئيس الليبي المدحور معمر القذافي من دون الاضطرار لذكر تفاصيل عملية تصفيته وهو حي قادر على السير على قدميه؟
ربما قال البعض منا ان ساعة زمن عذاب لاقاها القذافي قبل ان يلاقي ربه لا تساوي شيئا أمام ما سببه من آلام وعذابات لجميع أفراد الشعب الليبي على مدى 42 عاما.
وإذا كان هذا صحيحا فانه صحيحٌ من الناحية الشكلية الجامدة وحسب، وذلك لافتقاره الى المنطق والى السلامة العقلية والحس الإنساني. فكيف لأُناس يزعمون انهم قاموا بهذه الثورة المسلحة والبالغة الكلفة لعموم الشعب الليبي ماديا وبشريا ونفسيا لوضع حد لجرائم نظام القذافي ضد إنسانية الإنسان الليبي وكرامته، ليأتوا، وبعد ان قيضت لهم الظروف الذاتية، خصوصا تحصلهم على الدعم الحاسم من “الناتو”، ويعيدوا إنتاج صناعة الموت ذاتها التي امتهنها النظام السابق، بحيث صار ينطبق عليهم القول المأثور: لا تُنهي عن خلق وتُؤتي مثله عارٌ عليك اذا فعلت عظيم.
وعلى ذلك ولكي تستعيد الثورة الليبية ما أفقدته إياها جزئيا تلك الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وآدميته، من سمعة على الصعيد الأخلاقي، سوف يتعين على المجلس الانتقالي الليبي السير قدما فيما كان تعهد به للأسرة الدولية التي هالها ما ارتكبه بعض الثوار من انتهاكات وجرائم حرب، وذلك بالتحقيق في تلك الجرائم وتقديم مرتكبيها للعدالة، وهو ما سيُعد لاحقا أحد مقومات تبديد القلق لدى الشعب الليبي من نوايا وتوجهات الحكم الجديد.
فلابد لكل شيء من بداية، ولابد لهذه البداية من انطلاقة.. وانطلاقة صحيحة، ولكي يتحقق ذلك لابد من أساس متين وصحيح “لمبنى” النظام الجديد المعول عليه الإسهام في تعزيز الاتجاهات الديمقراطية التعددية في العالم العربي. ونحسب ان هذا أدعى لكي يَحذر ويتحفظ المتحفظون وأن يضعوا مفردة الثورة – المنصرفة قصدا لطريقة تغيير النظام في ليبيا – بين هلالين الى أن تزول كل الملابسات التي أحاطت ولازالت تحيط بها.
حرر في 11 نوفمبر 2011