يوم الخميس 29 سبتمبر/أيلول 2011 أطلق النائب عن الحزب الجمهوري والمرشح الخاسر أمام الرئيس باراك أوباما في انتخابات الرئاسة الامريكية الاخيرة جون ماكين تصريحا من العيار الثقيل مفاده “ان سقوط نظام القذافي في ليبيا سوف يحفز الشعبين الصيني والروسي على الثورة ضد نظامي الحكم في الصين وروسيا”.
صاحب هذا التصريح الذي يمكن أن يصنف في اللغة الدبلوماسية بالكلام الفاقد للكياسة واللياقة الدبلوماسية، وقد يصفه بعض الساسة بالحديث الأخرق أو الأحمق – نقول ان صاحب هذا التصريح ليس مسئولا أمريكيا عاديا وانما هو قطب كبير من أقطاب المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة وأحد الوجوه البارزة في صفوف زعامات الحزب الجمهوري المتمتع بأغلبية مجلس النواب.
فما الذي يقرأه المرء في بواعث هذا التصريح المستفز الذي يعيد الى الأذهان مرحلة الحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، حيث كانت لغة التنابذ والتحريض هي لغة التخاطب السائدة بين الكتلتين بحكم العداء الايديولوجي المستحكم بينهما منذ قيام الثورة البلشفية في روسيا التي أطاحت بالحكم القيصري في عام 1917 ثم راحت تتمدد وتتوغل داخل وخارج الحدود الجغرافية لروسيا القيصرية؟
ربما اكتفى البعض بالتأويل المبني على شخصية ماكين ” البلدوزرية” الفظة التي لا تتقيد عادة بقواعد البروتوكول وأصول اللياقة الدبلوماسية. فضلا عن مثالية الظروف الاقتصادية الصعبة التي تشكل في الغالب مطمعا وبيئة مناسبة لصعود نجم أمثال هؤلاء الشعبويين.
هذا تأويل معقول جدا لولا أن جون ماكين ليس “البلدوزر” الوحيد الصاعد نجمه في الحزب الجمهوري والمتحفز لشغل منصب متقدم في البيت الأبيض حين يكون الفوز من نصيبهم، كما يأملون، في انتخابات الرئاسة القادمة (نوفمبر من العام المقبل). ومع ذلك فان أحدا لم يسمع من أمثال هؤلاء (سارة بالين المرشحة السابقة لمنصب نائب الرئيس الأمريكي التي اختارها بالمناسبة جون ماكين لتكون نائبته في حال فاز على أوباما في الانتخابات السابقة، وحاكم ولاية ماساتشوستس “ميت رومني” الذي يتصدر حاليا لائحة المرشحين الجمهوريين لمنصب الرئاسة القادمة – على سبيل المثال لا الحصر) – لم نسمع من أمثال هؤلاء تصريحا منطاولا بهذا الاستهداف الصريح المتواقح بحق كل من الصين وروسيا.
واذا كان لهذا من تفسير فهو انه اذا كانت مثل هذه التطاولات الصريحة غائبة في الخطاب السياسي الامريكي في الفترة السابقة فهو لا يعني عدم وجود نوايا وخطط مضمرة ضد هذين البلدين اللذين لازالت واشنطن تنظر اليهما على انهما المنافسين الجديين اللذين يشكلان التهديد الأكبر لطموحاتها القيادية والسيادية والاستحواذية الكونية.
ومن يتابع أجهزة الميديا الأمريكية ونفوذ الطبقة السياسية الامريكية المتطاول في الميديا الأوروبية سوف يجد أن اسمي الصين وروسيا لا يكادان يختفيان، ولو لأسبوع واحد، من تناولاتها لمشاكل البلدين بنفَس ينضح عداءً وتحريضا وتسقيطا يروم مراكمة وتشكيل وعي جمعي سالب تجاه هاتين الدولتين.
فيما يتعلق بالصين فان الولايات المتحدة تتبنى علنا وعلى أعلى المستويات الحركات الانفصالية للأقليات وخاصة سكان التبت والأقلية المسلمة، ويتم استقبال الدلاي لاما زعيم التبت من قبل الرؤساء الامريكيين في البيت الابيض كأي رئيس دولة بكل حفاوة الاستقبال المعهودة في مثل هذه المناسبات، ويجري تقديم الدعم الاعلامي والسياسي والمادي السخي له ولأنصاره لتشجيعهم على القيام بمزيد من الفعاليات التي تكرس الوضع المتوتر في منطقة التبت لتشكل أحد مصادر الاستنزاف الدائم للطاقة والموارد الصينية بهدف كبح جماح الاتجاه الاقتصادي الصعودي للمارد الصيني المهدِّد لعرش “الامبراطورية” الامريكية الكونية.
ويدرك الامريكيون انهم فقدوا مزاياهم التنافسية، الأمر الذي يعكس نفسه في تضاؤل الفجوة يوما بعد يوم بين الحجم الكلي للناتج المحلي الامريكي ومثيله الصيني، وان ضغطها على الصين لاجبارها على رفع سعر صرف عملتها الوطنية من أجل استعادة بعض تنافسيتها المتآكلة، لن يجدي نفعا وهو ما سيؤدي الى ازاحة الصين للولايات المتحدة من زعامة العرش الاقتصادي العالمي كما أزاحت اعتبارا من العام الماضي اليابان من مركزها الثاني وأخذت مكانها. كما تستخدم واشنطن ورقة تايوان للتنغيص والتشويش على الانهماك الصيني في التنمية المتسارعة، فيما ترد الصين بتوظيف ورقة كوريا الشمالية لاقلاق النفوذ الامريكي في شبه الجزيرة الكورية وفي منطقة الباسيفيكي.
وأما فيما يتعلق بروسيا فان واشنطن لا تنظر بارتياح الى قرار الحزب الحاكم في روسيا (حزب روسيا الموحدة) باعادة ترشيح فلاديمير بوتين لانتخابات الرئاسة العام لمقبل، فهذا الرجل هو من أعاد بناء القدرات والطاقات الانتاجية الروسية في ظرف زمني قصير والتي كانت واشنطن وحلفاؤها الاوروبيون قد انفقوا المال والجهد في سبيل اضعافها وتحويل روسيا التي ورثت الاتحاد السوفييتي المنهار الى دولة معطوبة وذلك بتسهيل من المجموعة الفاسدة بقيادة الرئيس الراحل بوريس يلتسن التي قصفت مبنى الدوما (مبنى البرلمان الروسي) بالدبابات والتي رعتها واشنطن وحلفاؤها. صحيح ان بوتين استثمر ،بدهاء، المشاعر القومية الروسية لاستثارة همم الأمة الروسية وكبريائها المجروح، واعتمد المقاربة الشمولية في اعادة هيبة الدولة الروسية، الا انه نجح في مخططه، وبات يطرح روسيا من جديد كلاعب أساسي منافس لواشنطن وأوروبا “القديمة” على المسرح الدولي.
فهل عرفتم الآن لماذا ضربت روسيا والصين بالفيتو المزدوج في جلسة مجلس الأمن الدولي فجر الثلاثاء-الأربعاء لوأد مشروع قرار أوروبي شكلا وأمريكي واقعا ضد سوريا وتوجيه لطمة قوية لواشنطن أفقدتها توازنها واضطرتها عصبيتها لفضح أمريكية القرار الذي استخدمت واشنطن لأجله الدول الأوروبية ساترا لها كما فعلت في الحالة الليبية؟
مما لاشك فيه ان تصريحات “البلدوزر” جون ماكين التي ارتقت الى مرتبة التهديد باستهداف استقرار البلدين الكبيرين، كان لها قسطها في اثارة الغضبة الصينية الروسية “المزدوجة”، من دون أن نسقط تنبه الدولتين الصين وروسيا الى استمراء واشنطن وحلفائها الأوروبيين تحويل مجلس الأمن الى أداة لشرعنة حروب الناتو بعد نجاحهم في “الملعب” الليبي، فلا تريد الدولتان، والحال هذه، أن تكونا مجرد بصَّامتان على القرارات الحربية لهذا المجلس.
حرر في 28 اكتوبر 2011