ليس لدى الولايات المتحدة الأمريكية ما يشكل مدعاة لتأنيب الضمير في ما خص اليهود في العالم، على غرار ما هو حادث، بمبالغة ممتدة زمنياً غير مفهومة مع ألمانيا .
فلم تتورط الولايات المتحدة في أعمال عدائية وعنصرية ضد اليهود، كما فعلت ألمانيا النازية، إبان حكم الدكتاتور أدولف هتلر، خصوصاً أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 1945)، بل إن العكس هو الصحيح، حيث وفرت الولايات المتحدة لليهود الفارين والناجين من القمع النازي، ملاذاً آمناً في أراضيها، واحتضنتهم ورعتهم على أحسن ما تكون الرعاية .
فما الذي يدفع الولايات المتحدة للدفاع عن “إسرائيل” بهذه الشراسة؟ ولماذا لا تدع الولايات المتحدة “إسرائيل” تدافع عن نفسها بدلاً من قيامها هي نفسها بتولي مهمة الدفاع المستميت عنها، كما تدافع اللبؤة عن صغارها؟
هذا هو حال الولايات المتحدة مع “إسرائيل” منذ أن تبنتها وجعلتها قاعدتها الشرق أوسطية الموثوقة لحماية مصالحها الإقليمية، وهو يتبدى اليوم بصورة غاية في السطوع والفجاجة، في المعركة الشرسة التي تخوضها الحكومة الأمريكية ضد السلطة الوطنية الفلسطينية بعد ما حزمت الأخيرة أمرها، وقررت التوجه إلى الأمم المتحدة للتقدم بطلب الحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة .
وتعتقد الولايات المتحدة أنها غير مضطرة إلى تقديم ما يغري السلطة الفلسطينية ويدفعها للعدول عن مسعاها بالسير قدماً في إجراءات طلب العضوية الكاملة في الأمم المتحدة لدولة فلسطينية “سبعة وستينية”، (على حدود عام 1967) وعاصمتها القدس الشرقية . فسيف العقوبات الأثير تاريخياً إلى قلب الطبقة السياسية الأمريكية، جاهز ليس فقط للتلويح به، وإنما لاستخدامه إن اقتضى الأمر .
ومع ذلك، ومواكبة للمتطلب الدبلوماسي في التعاطي مع أي إشكال سياسي أو أزمة سياسية، فلا غضاضة من تقدم الإدارة الأمريكية بعرض استئناف المفاوضات الفلسطينية “الإسرائيلية”، رغم ما ينطوي عليه هذا العرض من هزل واستخفاف .
فهذا تلويص سياسي (بالتعبير الشعبي البحريني)، أو “جمبزة سياسية”، على حد تعبير الكاتب ووزير الإعلام الكويتي الأسبق الدكتور سعد بن طفلة .
نعم هي بالفعل كذلك، محاولة للضحك على الذقون . فرجال البيت الأبيض والقائمون على سياسته الخارجية يدركون قبل غيرهم أن إدارة الرئيس أوباما سوف تتفرغ منذ الآن لترتيب أوضاعها وتهيئة نفسها لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة (في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام المقبل)، وأنه لن يكون لديها وقت “تضيعه” في قضايا هي بالنسبة إليها هامشية قياساً إلى قضيتها الأهم وهي الانتخابات التي لا تريد أن يشغلها عنها أي شيء آخر .
فلماذا إذاً، تطرح الإدارة الأمريكية على السلطة الفلسطينية هذه “الجزرة” بموازاة عصا العقوبات (وقف المساعدات المالية)؟
تذهب فرضيتنا المرجحة إلى أنه قد تولد لدى الإدارة الأمريكية اعتقاد راسخ بأن الفلسطينيين، وبعد ثمانية عشر عاماً من المفاوضات الماراثونية، قد أدمنوا هذا “العقار”، وأنهم بالتالي سوف يتلقفونه بسرعة ما إن يقدمه لهم الأمريكيون في مغلف زاهٍ وجذاب هذه المرة، وذلك برسم تصريحات كان قد أعلنها رئيس السلطة محمود عباس من أن الهدف النهائي للخطوة الفلسطينية (تقديم طلب العضوية الكاملة للأمم المتحدة)، هو استئناف المفاوضات مع “إسرائيل” .
وهذا وهم آخر يُضاف إلى جملة أوهام “الحلم الأمريكي” التي مازالت تسكن عقول كهول وزمرة الساسة الأمريكيين المتصهينين الذين لا يرون في الكون سوى نجوم بلادهم الثابتة في مستقرها .
هل أصبحت الصورة الآن واضحة للواهمين لدينا، من أن صراخ الولايات المتحدة وعويلها وتهديداتها تؤكد أنها غير صادقة في ادعاءاتها بالسعي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة؟ وهو الوهم الذي تم تطييره منذ ولاية جورج بوش .
أيضاً: هل أدركت السلطة الوطنية الفلسطينية الآن أنه حتى الدولة المسخ التي وعدهم بها الأمريكيون، لن ترى النور في ظل موافقتها على مجاراة الأمريكيين في لعبة التفاوض اللانهائي الذي لن يقبضوا منه سوى السراب؟
وإنه، بالتالي، سوف يتعين عليها (السلطة الوطنية الفلسطينية) التمسك بحقها وموقفها المؤسس عليه وعلى إرادة وموجة حركة التحرر العربية، لأن هذا هو الطريق المفضي إلى نيل المطالب والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وليس طريق الأمنيات والمساومات العبثية التي لا طائل منها .
حرر في 23 سبتمبر 2011