أصدر صندوق النقد الدولي مؤخراً تقريراً تقييمياً للاقتصاد العالمي World (Economic Outlook) تضمن نظرتين تحليليتين للاقتصاد العالمي إحداهما مكرسة لاتجاهات سوق النفط العالمي والانعكاسات الخطرة لارتفاع أسعار النفط على الناتج العالمي، ومفادها “أن الزيادة المطردة في أسعار النفط في السنوات العشر الأخيرة تؤكد أن أسواق النفط العالمية قد دخلت مرحلة تزايد الندرة (ندرة المعروض النفطي) .
ومع الأخذ في الاعتبار الارتفاع المتزايد للطلب على النفط في اقتصادات الأسواق الصاعدة، وتراجع اتجاهات العرض النفطي، فإن العودة لحالة وفرة المعروض النفطي لن تحدث في الأمد القريب على الأقل . ويستطرد التقرير في القول “قد لا يشكل الارتفاع المتدرج والمعتدل في الندرة النفطية مشكلة كبيرة بالنسبة إلى نمو الاقتصاد العالمي على المديين المتوسط والبعيد، رغم أن تحويل الثروة من المستوردين (مستوردي النفط) إلى المصدرين، من شأنه زيادة تدفقات رأس المال وتوسيع رقعة عدم التوازن في موازين الحسابات الجارية . ويمكن أن تكون الآثار المعاكسة أكبر وذلك تبعاً لمدى تطور حالة ندرة العرض النفطي وقدرة الاقتصاد العالمي على التعامل مع تزايد هذه الندرة . وإن الارتفاعات الفجائية في أسعار النفط يمكن أن تتسبب في خسائر كبيرة في إجمالي الناتج العالمي وتوزيعه وتحولاته القطاعية . وهنالك مجالان للعمل على هذا الصعيد .
في المجال الأول ومع الأخذ في الاعتبار أي ارتفاع غير متوقع في ندرة المعروض من النفط وغيره من الموارد والمواد الخام الوسيطة، فإن على صانعي السياسات مراجعة سياساتهم وما إذا كان إطارها الحالي يسمح لهم بالتكيف والتعامل مع أي تغير فجائي في ندرة المعروض النفطي، وفي المجال الثاني يتعين التأكد من فاعلية السياسات الموجهة لخفض مخاطر ندرة المعروض .
وإلى ذلك يرسم تقرير صندوق النقد الدولي سالف الذكر سيناريوهين لاحتمالات تأثير انخفاض إمدادات النفط على إجمالي الناتج العالمي . في السيناريو الأول يتوقع الصندوق أن إجمالي الناتج العالمي سينخفض بواقع ثلاث نقاط مئوية منذ الآن وعلى مدى العقدين المقبلين مع كل انخفاض سنوي في الإمدادات النفطية بواقع 1% . وترتفع نسبة هذا الانخفاض في إجمالي الناتج في الولايات المتحدة (التي تستورد أكثر من 40% من حاجتها من البترول)، إلى 4% . ولكن إذا أخذنا في الاعتبار توجهات سياسات الإحلال الطقوي في الولايات المتحدة (إحلال مصادر طاقة جديدة محل النفط)، فإن نسبة الخفض في الإجمالي تبقى عند حدود الواحد في المئة في أمريكا والعالم . وفي سيناريو ثانٍ أكثر تشاؤماً، يتوقع صندوق النقد أن يؤدي انخفاض نمو معروض إمدادات النفط بواقع 8 .3%، إلى خسارة الاقتصاد العالمي لعشر نقاط من إجمالي ناتجه، وخسارة الاقتصاد الأمريكي لنحو 13% من ناتجه .
جوهر القول إن هذه الأفكار وهذه الفرضيات والاجتهادات التي تتكرر بكثرة وكثافة في الآونة الأخيرة في الأدبيات والتقارير وأجهزة الميديا الغربية، هي توجهات سياسية – اقتصادية تروم بلورة إجماع في الدول الغربية المستوردة للنفط، يفضي إلى جعل التخلص مما يسمونه “كابوس النضوب غير المحسوس” للنفط، والقلق الذي تسببه ديناميكيات سوق النفط التي تتسم بمفعولها السريع نظراً للاستخدام الأبرز للنفط في قطاع النقل والمواصلات، إلى جعلهما هدفاً مترجماً في صورة خطط عمل تستبدل النفط بمصادر طاقة أخرى بحيث تشمل هذه الخطط، رفع كفاءة الاستخدام (للطاقة) والاعتماد أكبر على النقل الكهربائي والتوسع في استخدام الوقود الحيوي وبدائل النفط الأخرى .
وبعد اكتمال مثل هذا “التحشيد” واجتذاب الجمهور إليه سوف يتم بصورة ممنهجة ومتدرجة تنفيذ خطة الإحلال تلك من خلال فرض ضرائب متصاعدة على استهلاك النفط والمنتجات النفطية، على أن يتم استثمار هذه الأموال المتحصلة في أعمال البحث والتطوير المفضية إلى مضاعفة البدائل الأخرى للنفط .
وبالنسبة إلى الولايات المتحدة المستهلك الأكبر لمصادر الطاقة في العالم ومنها النفط، فإن لديها خططاً ليس فقط لخفض وإرداتها من النفط من حجمها الحالي الذي يشكل 50% من استهلاكها النفطي البالغ نحو 19 مليون برميل يومياً، إلى أقل من 20% بحلول منتصف القرن الحالي، وإنما أيضاً خفض وارداتها من نفط الشرق الأوسط وتعويضها بنفوط أخرى من كندا وغيرها .
بيد أن مشكلة الولايات المتحدة ليست مع النفط وحده، بل إن النفط باعتباره إحدى السلع الاستراتيجية، لا يختلف وضعه في السوق عن السلع الأخرى المماثلة مثل الذهب والمعادن واللقائم الصناعية الأخرى غير المتجددة . مشكلة الولايات المتحدة مشكلة هيكلية بالدرجة الأساس ومشكلة سياسات اقتصادية أسهمت الإدارات المتعاقبة بفداحة أخطائها، في تأزيم ليس فقط الميزان التجاري الأمريكي (بسبب ارتفاع فاتورة الواردات مقابل الصادرات) والذي لا يشكل بالمناسبة سوى جزء واحد من ميزان المدفوعات . فإذا كانت الولايات المتحدة تتكلف يومياً مليار دولار من جراء استيرادها للنفط، فإنها تتكلف 12 مليار دولار شهرياً (144 مليار دولار سنوياً) كنفقات حرب جارية في أفغانستان والعراق . والنفقات العسكرية هي مكون أساسي من مكونات تلك الهيكلية الاقتصادية غير المتوازنة للنظام الاقتصادي والاجتماعي الأمريكي الذي لا يستطيع الاستغناء عنها وبالتالي التفريط في مزاياها الكلية .
ولذلك، ومن أجل إعطاء صورة أشمل للحالة الاقتصادية الأمريكية المختلة الراهنة، فقد كان يُفترض في معدي التقرير والإصدارات الدولية التي على شاكلته، أن يفردوا حيزاً مناسباً يتناول استهتار الحكومة الأمريكية والحكومات الأوروبية بجبل مديونياتها وعدم جديتها في توفير الحماية لعملتها (الولايات المتحدة)، وعدم مصداقية حكومات الاتحاد الأوروبي في التزامها بمعايير وحدتها النقدية، وإنها بذلك تكون قد خدعت حكومات الدول التي وثقت بعملاتها واقتنتها اكتنازاً واستثماراً!