من المفارقات بالغة الدلالة في التاريخ الاقتصادي الحديث للولايات المتحدة الامريكية ان الرئيس أوباما هو ثاني رئيس امريكي بعد الرئيس الراحل دوايت ايزنهاور يتجرأ على الدخول في مواجهة مباشرة مع اقطاب رأس المال الكبير وممثليهم في الكونغرس. في 17 كانون الثاني/يناير من عام 1961، حذر الرئيس ايزنهاور في خطابه الوداعي الى الامة الامريكية من مخاطر هيمنة ما أسماه بالمجمع الصناعي-الحربي على الحياة الامريكية. اليوم يقف الرئيس أوباما أمام ممثلي مصالح الشركات الامريكية الكبرى وكبار الاثرياء في الكونجرس ليقول بكل صراحة ووضوح: “يجب ان يكون كل منا – يقصد الديمقراطيين والجمهوريين – مستعدا لتقديم تنازلات وإلا فلن يتحقق أي شيء، لهذا السبب نحن بحاجة الى مقاربة متوازنة لخفض العجز، وهذا يعني ان علينا اجراء اقتطاعات جدية في الموازنة، لكن من غير المناسب ان نطلب من عائلات الطبقة الوسطى دفع المزيد مقابل الدخول الى الجامعة، قبل ان نطلب من الشركات الكبرى دفع حصتها العادلة من الضرائب. وقبل وقف تمويل الطاقة النظيفة يجب ان نطلب من شركات النفط ومالكي الطائرات التخلي عن الاعفاءات الضريبية التي لا تحصل عليها شركات أخرى، وقبل الاقتطاع من الابحاث الطبية يجب ان نسأل مدراء الصناديق ان يتوقفوا عن دفع الضرائب بمعدلات اقل من سكرتيريهم، وقبل ان نطلب من المسنين دفع المزيد للحصول على الرعاية الطبية، يجب ان نطلب من دافعي الضرائب الأكثر ثراءً أن يتخلوا عن الاعفاءات الضريبية التي لا نتحملها في هذه الظروف”.
وقد أشرك الرئيس أوباما الشعب الامريكي في معركته من أجل مقاربة للاقتصاد السياسي الامريكي جديدة، حيث دعاهم في سابع كلمة رسمية يوجهها الى الامة (الاثنين 25 يوليو/تموز 2011)، الى اسماع صوتهم بهذا الصدد قائلا: “ان كنتم تريدون مقاربة متوازنة لخفض العجز، دعوا ممثلكم في الكونجرس يعرف ذلك. ان كنتم تعتقدون ان بوسعنا حل هذه المشكلة من خلال التسوية وجهوا هذه الرسالة”.
والحال ان دورة صناعة القرار الاقتصادي المؤسسي (عبر المؤسسات الدستورية)، بدت بطيئة وبيروقراطية أكثر من اللزوم، ما يكشف تخلفها وانتمائها الى عصر اداري قديم لا يتواكب ولا يتناسب مع سرعة الديناميات الاقتصادية، الامر الذي تجلى في تأخر تعاطي النظام السياسي (الحكومة-البيت الابيض-والكونجرس) مع قنبلة المديونية، فقد كان يتعين التوصل الى توافق وحل لها مطلع عام 2011 أي قبل بلوغها حدها الأقصى في 16 آذار/مارس الماضي واضطرار الخزانة الامريكية للجوء الى مناقلات في بنود الانفاق والايرادات عبر بعض الترتيبات أو بالأحرى التلاعب المحاسبي والضريبي، بهدف مواصلة الصرف بصورة اعتيادية، وتحذير الخزانة في الوقت نفسه من انها لن تستطيع مواصلة هذا التحايل االمحاسبي الى ما بعد 2 آب/أغسطس 2011، فهي لن تتمكن من الاستمرار في دفع المستحقات بعد هذا التاريخ.
بعض الاقتصاديين العالميين خصوصا في الولايات المتحدة وأوروبا، قدموا قراءات تهوينية من بلوغ أزمة الدين العام في الولايات المتحدة هذا المستوى الخطير، حتى مع توصل البيت الابيض والكونجرس الى اتفاق بشأن السماح للحكومة “بالسحب على المكشوف” (Overdraft)، أي بما يتجاوز الحد الأقصى الذي بلغه اجمالي الدين الحكومي الامريكي والمسموح به قانونا، ويحصرونها على سبيل المثال في حال عدم التوصل الى مثل ذلك الاتفاق، في خروج استثمارات اجنبية ومحلية من امريكا بواقع حوالي 4 مليار دولار يوميا، والاستغناء عن بعض العاملين الحكوميين المدنيين والعسكريين، وتأجيل دفع مستحقات الضمان الاجتماعي، وهجرة المستثمرين للسندات الامريكية وكذلك أسهم الشركات الامريكية، وارتفاع اسعار الفائدة (كل 1% زيادة في سعر الفائدة يعني تكلفة اضافية على كاهل دافعي الضرائب مقدارها 150 مليار دولار، بما معناه ارتفاع كلفة الاستدانة بواسطة الاصدارات).
والواقع ان الازمة تتجاوز ذلك بكثير. وقد قال رئيس البنك الدولي ان الولايات المتحدة تلعب بالنار، وهو يقصد طريقة تعاطيها وتسويتها المستهترة مع أزمة ديونها وربطها بحجم انفاقها العام.
هل تستطيع الولايات المتحدة تجاوز أزمة مديونيتها؟
عديدة هي الدول التي استطاعت التغلب على عجوزات موازناتها وتحولت من دول عجز الى دول مقتدرة بل وحتى الاستثمار في شراء ديون دول اخرى. وتقدم لنا البرازيل وتركيا مثالين جيدين في هذا الصدد. ولاشك ان الولايات المتحدة تستطيع حل هذه المشكلة، بشرط تواضعها والتسليم بحقيقة أفول طاقاتها على الاستمرار في لعب دور شرطي العالم وتحمل تكلفته ومنها على سبيل المثال لا الحصر، انها تنفق 12 مليار دولار شهريا على قواتها المرابطة في العراق وأفغانستان، أي 144 مليار دولار سنويا، في حين انها تحتاج الى 6 مليارات دولار سنويا فقط لصيانة طرقها.