“النداء” تحاور د. قدري جميل وميشيل كيلو
ماذا يحدث في سوريا… وأين قوى اليسار مما يجري؟
ماذا يحدث في سوريا، إنتفاضة شعبية، ثورة تغييرية، مؤامرة خارجية.. تطورات خطرة ومتسارعة سقط على دربها الآف الضحايا.. اسئلة كثير حول الاوضاع في سوريا، والوقائع الميدانية، والآفاق.. حملتها ” مجلة النداء” وحاورت أمين اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، د. قدري جميل، والمفكر اليساري الاستاذ ميشيل كيلو. ( تابع نص المقابلة)
ماذا يحدث في سوريا؟
د.قدري جميل:
في سوريا هناك حالة مركبة ومعقدة، ويمكن تلخيصها بشكل موجز على النحو التالي:
أولاً: نتيجة السياسات الاقتصادية الليبرالية في الأعوام السابقة، وخاصة في السنوات الخمس الأخيرة. أنتج مستوى عالٍ من حالة عدم الرضى الاجتماعي بسبب ارتفاع نسب الفقر والبطالة، بالإضافة إلى تراجع دور الدولة الاجتماعي.
ثانياً: مستوى منخفض جداً من الحريات السياسية استمر لعدة عقود بسبب قانون الطوارئ مما منع المجتمع من التعبير عن همومه ومشاكله في الوقت المناسب لمعالجتها، وما أعطي من جهة أخرى من صلاحيات استثنائية للأجهزة الأمنية التي لم تستخدم في أكثر الأحيان بالاتجاه التي صيغت من اجله، وتحولت إلى عامل ضغط على رزق المواطن وكرامته.
ثالثاً: نتيجة العاملين السابقين تكونت مشاكل خاصة ومزمنة في كل منطقة من مناطق سوريا مما زاد من مستوى الاستياء.
رابعاً: ازدياد الفساد، أي النهب غير الشرعي، لموارد الدولة والمجتمع الذي أدى إلى تمركز غير مسبوق للثروة في أيدي قلة قليلة، في جهاز الدولة والمجتمع، مستفيداً من الأوضاع الناشئة.
لقد حذرنا باكراً أنه في ظل المخططات الأميركية ـ الصهيونية في منطقتنا فإن كل ذلك يمكن أن يؤدي إلى ثغرات يستفيد منها العدو الخارجي لإخراج سوريا من معادلة المقاومة والممانعة في المنطقة، عبر الاستفادة من التوتر الاجتماعي وصولاً إلى اللااستقرار السياسي وهو ما جرى فعلاً.
هذا من حيث الأسباب العميقة، أما الأسباب المباشرة فإن تفجر الاحتجاجات الشعبية العفوية التي كانت تعبيراً عن مطالب مشروعة ومحقة جرى محاولة لجرها في إتجاه خاطئ من قبل الطرفين، الأول: بعض القوى في جهاز الدولة المرتبطة بالفساد الكبير والمرعوبة من إمكانية الإصلاح الجذري الشامل الذي سوف يطالها ويطال مصالحها. أما الثاني: فهي بعض القوى المتطرفة والمتشددة في المجتمع من تكفيريين وسلفيين وعناصر إجرامية أرادت التستر بالحركة الشعبية والاختباء ورائها لتمرير أهدافها القريبة والبعيدة.
اللافت.. أن هاتين القوتين تصوبان النار عملياً على احتمال الإصلاح الشامل السياسي، والاقتصادي والاجتماعي كما ترفضان بآن واحد أي حوار بين المجتمع والدولة وبين بقية أطياف المجتمع من جهة أخرى. القوى الأولى من خلال إنكار وجود حركة شعبية ومحاولة الخلط المتعمد بين المسلحين الإرهابيين وبينها ـ أي الحركة الشعبية ـ والثانية تحت ستار شعار “إسقاط النظام”.
لقد بينت التجربة خلال الأشهر الـ 5 الماضية أن القضاء على الحركة الشعبية ومنعها من التعبير عن رأيها بشكل سلمي، عبر التظاهر، هو أمر مستحيل بل مضر لأنه لم يؤدِ إلا إلى زيادة عدد الضحايا. كما بينت التجربة من جهة أخرى أن شعار “إسقاط النظام” قياساً على التجربة التونسية والمصرية، وفي الظروف السورية الخاصة، هو أيضاً أمر مستحيل دون التفريط بوحدة البلاد وسيادتها. في هذه الظروف يزداد بشكل غير مسبوق الضغط الخارجي المتعدد الأشكال السياسي، والاقتصادي، وحتى العسكري، وصولاً إلى احتمال تدخل عسكري خارجي. من هنا يصبح البحث عن مخرج آمن للأزمة أمراً ملحاً، الأمر الذي يتطلب ولوج بوابة الإصلاحات الشاملة بأسرع وقت، وهذا أمر لا يمكن تحقيقه في اللحظة الراهنة دون توفير المناخ المناسب لبدء حوار وطني شامل، وهذا يتطلب وقف دوامة العنف عبر إيجاد الأشكال المناسبة لتقييد كل القوى المتطرفة في النظام وخارجه، من “شبيحة” مسلحة إلى تنظيمات إرهابية مسلحة، وكذلك منع قوى الأمن من استخدام السلاح نهائياً في الشارع إلا في حالات الضرورة القصوى في الدفاع عن النفس، وتكليف الجيش الوطني بحماية المدنيين، من المتظاهرين وغيرهم. وكذلك يمنع العنف من أية جهة كانت، وليس آخراً إطلاق سراح جميع المعتقلين السلميين على خلفية الأحداث الحالية.
كل ذلك سوف يسمح بافتتاح طاولة حوار وطني شامل للبحث في مجرى الإصلاحات المطلوبة وآجالها، ويجب أن يجلس حتماً حول هذه الطاولة ثلاث قوى وهم: أولاً ممثلو النظام والأحزاب والقوى المتحالفة معه، ثانياً ممثلو أحزاب المعارضة بمختلف أطيافها، والتي لا تعلن أي استقواء بالخارج، وثالثاً ممثلو الحركة الشعبية على الأرض التي تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة نشيطة، وهي بنية مستقلة نسبياً عن النظام وكل الحركات السياسية، وتعبر عن نفسها ليس فقط عبر الاحتجاجات في الشارع، وإنما بأشكال مختلفة أخرى وتمثل جزءاً هاماً وأساسياً من الشارع السوري.
الخلاصة: المطلوب حلول شاملة اقتصادية وسياسية واجتماعية، وليس حلولاً جزئية. حلول عميقة، وليست ترقيعية، تؤدي إلى تغيير عميق في بنية النظام على المستوى الاقتصادي، والسياسي والاجتماعي، وتكون الحلول استباقية وليست متأخرة كما يجري حتى الآن.
إن البلاد التي يزداد تهديدها من قبل الخطر الخارجي أحوج ما تكون إلى وحدتها الداخلية والقوى الشريفة والنظيفة في النظام والمجتمع، وهي قادرة على إقصاء القوى الأخرى والوصول إلى هذا الهدف، الذي كان ومازال، السلاح الأساسي في معركتنا الوطنية الكبرى من اجل تحرير الأراضي المحتلة.
الاستاذ ميشيل كيلو:
ما يحدث في سوريا حراك اجتماعي واسع له هدفان. الأول الحرية للناس والثاني التوزيع العادل للثروة الوطنية، يقابل هذا الحراك تمسك بنية النظام الحالية، من قبل السلطة الحاكمة، التي عبرت عن رفضها للاستجابة لمطالب الناس تحت الضغط وتريد الحفاظ على بنية النظام الحالية دون تغيير إلا في الأشكال الخارجية لبناه الدائمة.
ولعله من المؤسف أن يكون هناك إصرار من النظام على إنكار طابع الأزمة وتمسكه بأطروحة المؤامرة التي يعني الرد عليها استخدام عنف مفتوح ضد المجتمع يفتح أبواب البلاد أمام التدخل الخارجي، بينما الأزمة على حقيقتها سياسية اجتماعية اقتصادية ثقافية عامة يستحيل أن تحل بالعنف ولا حل لها بغير السياسة وأدواتها والتوافقات الوطنية العامة.
ومن الواضح أن استمرار الوضع السياسي الحالي يجعل الإجابة على السؤال “سوريا إلى أين” صعبة جداً لأن هذه السياسة التي تعالج بالأمن أزمة لا يصلح الأمن لمعالجتها تضع البلاد أمام جميع المخاطر المحتملة بدءاً من التفكك الداخلي مروراً بالاقتتال الأهلي وصولاً إلى مختلف أنواع التدخل الخارجي.
كي تنجو سوريا من هذه المصائر الثلاث لابد من إيجاد حل سياسي متوافق عليه يخرجها من المأزق الراهن على أساس تلبية مطالب الشعب كاملة غير منقوصة وإلا فإن استمرار السياسة الحالية سيُحمّل القائمين عليها المسؤولية عن مصير اسود ينتظر سوريا.
أين قوى اليسار مما يحدث في سوريا؟
د.قدري جميل:
الحقيقة انه يجري اليوم في البلاد موت الفضاء السياسي التقليدي الذي تكون في مرحلة ما بعد الاستقلال. الجميع هنا، يساراً ويميناً، يعاني من أزمة عميقة، ومن جهة أخرى يجري تكوّن فضاء سياسي جديد ما زال في خطواته الأولى، وبإنتهاء تكونه سوف تظهر بنية سياسية جديدة والأكيد أن قوى عديدة من البنية القديمة سوف تموت وتتبخر نهائياً، وأن قوى أخرى منها مرشحة للتكيف مع الفضاء الجديد، ومن المحتم أن تظهر قوى سياسية جديدة كنتاج للحراك الجاري. لذلك فالحديث لا يمكن أن يجري هنا فقط عن اليسار وخاصة التاريخي منه. فقوى كثيرة كانت محسوبة، اسمياً، على اليسار ولم تعد منه اليوم. فإذا كان المقصود من السؤال بنى اليسار التاريخية في سوريا، فهي كانت موجودة في الدرجة الأولى عبر الحركة الشيوعية وفيها يجري تفاعلات وتغيرات عميقة سببها التفاعل مع الأوضاع الجديدة ـ القدرة أو عدم القدرة على التكيف معها، بالتأثير عليها دون فقدان الأسس الثابتة مع محاولة إيجاد البنى والأدوات والأشكال الجديدة للعمل في الظروف المستجدة.
إن المفارقة في الأوضاع السورية الراهنة هي الهوة الواسعة التي اتضحت بين كل الأحزاب السياسية وبين الشارع. هذا الشارع الذي يبحث عن ممثلين له إن كان في البنى القديمة التي يرى في بعضها أملاً أو في تكوين بنى جديدة.
الاستاذ ميشيل كيلو:
اليسار هو الذي طالب على مر العقود الأربع الماضية بتغيير وطني ديمقراطي في سوريا، وقدم مرات كثيرة خططاً عملية لهذا التغيير تضمن بعضها مقترحات تقوم على تعاون جميع القوى السياسية بما في ذلك قوى السلطة من اجل تنفيذ برنامج التغيير المطلوب.
يرى اليسار في ما يجري اليوم قبولاً شعبياً لبرنامجه ويعتقد بأن الشعب، في قسم كبير منه، تحول إلى حامل لهذا البرنامج الديمقراطي. من هنا فهو يطالب السلطة بإلحاح بأن تبادر إلى تلبية مطالب الشعب لأن فيها مصلحة وطنية عليا ولأنها توفر على سوريا التصدع العنيف الذي تعيشه الآن على مستوى المجتمع والدولة. ويبذل اليسار جهوداً كبيرة من أجل إيجاد قواسم وطنية واجتماعية مشتركة يمكن أن تشكل مخرجاً من الأزمة الراهنة، ويدعو السلطة إلى قبول مطالب الشعب خاصة وأنها وصفتها بالمطالب المحقة في مرحلة التمرد الأولى عندما كانت لا ترى فيها منظمات سلفية مسلحة.
ليس صحيحاً أن المعركة هي بين بنية النظام ومنظمات سلفية. فالمعركة هي معركة حرية وعدالة بالدرجة الأولى، وهي إذاً معركة جماهير ومجتمع حرم لفترة طويلة من حقوقه الأساسية.
لا يتبنى اليسار أطروحة السلطة حول طابع التظاهرات الدائرة الآن ولا يعتقد أنها عنفيه، بل يرى أنها سلمية وأنها تفتح الطريق نحو إصلاح جذري عميق ومتوافق عليه يأخذ سوريا إلى طور انتقالي سينتهي بها إلى نظام ديمقراطي برلماني فيه مصلحة أطياف العمل السياسي الراهن بما في ذلك حزب البعث العربي الاشتراكي.
النداء 168
24/08/2011