طرقنا في مقال الأسبوع قبل الماضي (8 يوليو/تموز 2011) موضوع “تحديات المراحل الانتقالية”، وهو موضوع بالغ الأهمية والحيوية بالنسبة لكافة مجتمعاتنا العربية التي تجتاز، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مراحل انتقالية اضطرارية فرضها الربيع العربي بهبات نسائمه العليلة التي فتحت لأول مرة كوة في جدار الصمت والجمود اللذين خيّما على المشهد العربي العام على مدى أكثر من نصف قرن.
وقد عرضنا على سبيل التحديد للمرحلتين الانتقاليتين اللتين تجتازهما كل من مصر وتونس بعد نجاح ثورتيهما الشعبيتين اللتين أطاحتا النظامين الحاكمين فيهما .. نظام الرئيس السابق حسني مبارك في مصر ونظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي في تونس. وأوضحنا إن المصاعب والمخاطر المحدقة بالبلدين الشقيقين جراء الفوضى التي عادة ما تنشب جراء انهيار نظام بكامل مؤسساته وأجهزته، التنفيذية خصوصا، وما يقابل ذلك من محاولات مشوبة بالإرباك والتعثر والبطء والتلكؤ من أجل إحلال نظام آخر بديل يقوم مقام النظام السابق، وان يعمل بكل جد ومثابرة من أجل إعادة تشغيل ماكينة الدولة بكامل طاقتها وفاعليتها الإنتاجية.
إنها لمهمة في غاية الصعوبة والتعقيد، ناهيك عن أن مرحلة إعادة البناء تستغرق وقتا وصبرا قبل أن تظهر نتائجها الملموسة على الأرض، في الوقت الذي تكون فيه جماهير الشعب تنتظر بفارغ الصبر سرعة وفورية حصادها لعملية التغيير الكبرى التي أسهمت بتضحياتها الجسيمة في انجازها.
فكيف السبيل لمقابلة هذا التحدي الكبير الذي تشكله هذه المعضلة العويصة؟
طبعا سوف يكون ضربا من المستحيل أن تتمكن أي عملية تغيير سياسية نوعية من وزن التغييرين الكبيرين اللذين حدثا في تونس ومصر، وفي ظل حال الاضطراب والتراجع الذي يكاد يعم كافة قطاعاتهما الاقتصادية – أن تتمكن من تقديم مكاسب مادية فورية للناس التي ثارت من أجل تحسين أوضاعها بصفة عامة، وخصوصا منها أوضاعها المعيشية. وهذا بحد ذاته مصدر لارتفاع حرارة مشاعر السخط والامتعاض والاستياء التي يمكن أن ترتد أعمال شغب وتمرد وفتن سوف تكون بلاشك محل ترحاب وتشجيع وتحفيز القوى المضادة لعملية التغيير التي خسرت فجأة كافة امتيازاتها والتي ستبقى متأهبة، تُمني النفس، باستعادة نفوذها وامتيازاتها.
وأمام معطيات مثل هذه التداعيات السلبية لما بعد الثورات والتغييرات النوعية للحالة السياسية التي كانت حاكمة لحركة المجتمع حتى وقت قريب، فان التغلب عليها ومعالجة ذيولها هو الآخر يبدو مستحيلا قبل أن تأخذ الفوضى مداها وتستقر عند ما يمكن تسميته بالمنفعة الحدية (في الاقتصاد) حين تتلاقى منفعة البائع والمشتري على سعر المبيع، وفي حالتنا حين يصل المجتمع والدولة أو بالأحرى بقايا مؤسسات ورموز الدولة إلى قناعة بضرورة وفق النزف المتبادل للطاقات.
ما من حلول سحرية بطبيعة الحال لهكذا استعصاءات اجتماعية وتنموية بوجه عام. إنما هنالك فرص وإمكانيات لتنفيس الاحتقانات ومسببات تفاقم مشاعر السخط والاستياء المفضية للتمرد والاضطراب. فإذا كان تحقيق المطالب المعيشية ليس متاحا فان في وسع الحكومات الانتقالية كسب ثقة الناس وتفهمهم بل وحتى تأييدهم لإجراءاتها إن هي نفذت على الأقل الشق السياسي المتصل بمطالب الناس في تحقيق العدالة وتقديم رؤوس الفساد والمتسببين خلال المرحلة السابقة في الكارثة الاقتصادية والمعيشية التي آلت إليها الأوضاع العامة، للعدالة.
في مصر،على سبيل المثال، فان المطالب التي طرحها ائتلاف شباب ثورة 25 يناير 2011 في جمعة 8 يوليو/تموز بميدان التحرير تصلح لأن تكون ورقة مرور وتعويم للمجلس العسكري الذي يدير البلاد منذ أن أطاحت الثورة بنظام حسني مبارك والذي أخذت ثقة المصريين فيه تضعف نوعا ما بسبب التباطؤ الذي يعتور الخطوات الإصلاحية للثورة المصرية التي دفع الشباب المصري فاتورة كبيرة في سبيل إنجاحها . من ذلك على سبيل المثال لا الحصر: تخصيص دوائر قضائية مختصة بسرعة البت في محاكمة المتورطين في قضايا الفساد ونهب ثروة البلاد وتبديدها؛ وضع جدول زمني ملزم لإعادة هيكلة الوزارات والهيئات التي تلوثت سمعتها في العهد السابق؛ والإفراج الفوري عن جميع المعتقلين السياسيين؛ والكشف عن مصير المختفين والمفقودين؛ وتعويض أسر الشهداء والجرحى الذين سقطوا ضحايا قمع النظام السابق؛ ووقف بيع الغاز المصري إلى إسرائيل وبيعه عوضا عن ذلك إلى مشترين آخرين بأسعار السوق الحقيقية.
ولعل هذا ينطبق بنفس القدر تقريبا على الحكومة الانتقالية في تونس، مثلما انه ينطبق على بقية البلدان العربية التي تجتاز راهنا شكلا من أشكال المراحل الانتقالية. فإذا كان التقدم على المسار الاقتصادي-الاجتماعي صعبا خلال هذه المرحلة فان المسار السياسي يوفر فرصة مواتية لإحراز تقدم ملموس يمكن أن يعوض بعض الشيء الإخفاق المؤقت على المسار الاقتصادي-الاجتماعي.