ينفضُّ هذا الأسبوع حوار التوافق الوطني ويخرج بمرئياته، ورغم ما طُرح من آراء تذهب باتجاه التقليل من قيمة ومن مردود الحوار بدا جلياً اهتمام المواطن البحريني في العموم وبجميع المستويات بالحوار وبمخرجاته رابطاً إياه بخطوات عملية يرتجيها لتحقيق مطالبه، آماله وطموحاته. الحوار حدثٌ نال فعلاً اهتمام فئات واسعة في المجتمع وليس ذلك بمستغرب. فجمعٌ كهذا يناقش فيه الناس شئونهم وشجون وطنهم ينعقد لأول مرة على أرض البحرين.
وجَّه المواطن اهتمامه للحوار كونه أتى في أعقاب أزمة غير مسبوقة مر بها الوطن وعاشها كل فرد أياً كان وفي أي موقع، ومسّه شيء من تأثيرها في هذا الجانب من حياته أو ذاك. من جانب آخر لعب تسليط الضوء الإعلامي المكثف على الحوار دوراً في لفت انتباه أوسع قطاع من المواطنين، ولا نغفل عما أولاه الإعلام العربي والعالمي للحوار البحريني وما يُنتظر منه في أعقاب أزمة سياسية تابعها ويتابع تداعياتها ونتائجها العالم برمته.
أضف لذلك ما تتميز به المرحلة الحالية من ظرف اقتصادي بحريني صعب وضاغط، فقد تقاطعت على الاقتصاد البحريني تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية مع التداعيات السلبية التي خلفتها الأحداث الأخيرة. ومن دون مبالغة نقول إن المتضرر الأول في كل ذلك هو المواطن ونخص بالذكر المواطن محدود الدخل الذي يجد نفسه فريسة الحيرة مجبراً أن يعيد جدولة أوجه صرف دخله يُنقص هنا ليزيد هناك. محدودو الدخل أكثر فئةٍ من المواطنين تتلظى بنار صعوبة الحياة وشظفها لدى أي تغير سياسي أو اقتصادي يحدث في المجتمع.
الاهتمام المجتمعي العام بالحوار والذي غطى قطاعاً واسعاً من الناس نابعٌ من كونه (الحوار) ضم ممثلين عن تكوينات جماهيرية متنوعة وعن فئات متعددة من المواطنين. لقد دخلت هذا الحوار كل نوعيات ومستويات الناس وتلك برأينا ليست نقيصة في حق هذا الحَدث بل إثراءٌ يعكس وجهات النظر التي يتوافر عليها هذا المجتمع التعددي بمواطنيه وبتنوع مطالبهم. ونكاد نجزم أنه في هذا المجتمع الصغير قد وجد كل مواطن شخصاً أو اثنين أو حتى خمسة من المتحاورين ممن يقربه أو يجاوره أو يعرفه، ويستطيع أن يوصل من خلاله همومه ومطالبه، وهذا القريب أو الصديق إن لم يكن أخذ بتلك المطالب وطرحها على طاولة الحوار بحذافيرها فلا ريب أنه تفاعل معها بدرجة ما، ولا ريب أيضاً أنه طرحها بشكل أو بآخر. ولكي نكون منصفين نقول إن هذا الحوار في أهدافه ومراميه وفي شموليته وشفافيته بل وفيما قد يتحقق من مرئياته يكاد يضاهي ما ناقشته وأقرته السلطة التشريعية على مدى فصلين تشريعيين ونيف.
من الطبيعي أن ينظر كل مواطن للحوار من الزاوية التي تخصه وتلبي احتياجاته وطموحاته، وكذلك من الزاوية التي تتناسب ومستوى وعيه وفهمه للمشهد المجتمعي العام ولضرورة الإصلاح في جوانبه السياسية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية.
هناك نسبة كبيرة من المواطنين مطحونة بضيق ذات اليد وصعوبة كسب اللقمة وافتقاد العيش الآمن والمستقر، ومثلهم محدودو الدخل ومتوسطو الحال من عمال وموظفين ومهنيين في القطاعين العام والخاص. شرائح كبيرة من هذه الفئات الواسعة يتمحور همها اليومي وطموحاتها حول تحسين وضعها ووضع أسرها المعيشي الصعب، وشرائح أخرى تعاني –على خلفية الأحداث الأخيرة- من افتقاد الأمن والعيش المستقر ومن الشعور الدائم بالتهديد وافتقاد السكينة الحياتية والنفسية، بؤرة اهتمام وطموح هؤلاء جميعاً تتركز في أن يتمخض ما دار وراء طاولات الحوار عن تحقق تحسين فعلي، سريع وملموس في أوضاعهم المعيشية وفي أمنهم الحياتي.
قطاعات أخرى نظرت للحوار من الجانب الذي يخصها مهنياً واستثمارياً كالاقتصاديين ورجال الأعمال والطبقة الميسورة. وهؤلاء ربما وجدوا في مناقشات المحور الاقتصادي وما خرج عنه من مرئيات حجر الزاوية في الانطلاق بالبحرين إلى مستقبل اقتصادي أكثر متانة وأكثر خيراً، ويتطلعون لتنوع فرص الاستثمار ولتوسيع المشاريع التنموية، وذلك –برأيهم- سيكفل توافر حلول مجتمعية شاملة لإشكالات المحاور الأخرى.
وهناك المفكرون والمثقفون وأصحاب الرأي والتكنوقراط وهؤلاء معنيون بباقة المحاور مجتمعة، فلهم في كل محور جوانب تستدعي الاهتمام والبحث والخروج بمرئيات إرساء أو تطوير، هم مهتمون بشكل أساسي بتعزيز الحريات وحمايتها، وبحقوق الإنسان وصونها، وبإرساء قوانين ضامنة لما يليق بالمواطن من حرية وعدالة وعيش كريم.
ووسط كل هؤلاء يبرز المواطن المسيس الذي ينحاز لفكر سياسي معين أكان منخرطاً في العمل السياسي من خلال عضويته في جمعية سياسية أو كان منحازاً لرؤية سياسية معينة، هذا المواطن ينشغل في الغالب بما ستسفر عنه طاولة الحوار السياسي ويربط نجاح الحوار بتثبيت رؤاه حول مناحي الإصلاح السياسي، بل يرى البعض أن الحوار كان يفترض أن يكون سياسياً فحسب وتحضره أطراف معينة فقط. الأحداث الأخيرة التي عصفت بالبحرين سياسية بالدرجة الأولى لا شك في ذلك لكن الحاصل أن هذا الحوار لم يتقرر فقط لحل الإشكال السياسي الذي أفرز الأزمة ويبدو أن الدولة تأمل وتعوِّل على أن يذهب الحوار لوضع رؤية مستقبلية متكاملة وشاملة للمجتمع البحريني تجنبه الانزلاق إلى أزمات مماثلة أو أخرى من أي نوع.
لو عُقد حوار من هذا النوع في مجتمع متقدم لرأينا المشاركين يندفعون إلى طاولات المحاور الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية أكثر من ركضهم نحو الطاولة السياسية، سيعقِّب البعض بالقول: الحلول لكل إشكاليات هذا المجتمع تبدأ بالإصلاح السياسي وتتمحور حوله والمجتمعات المتقدمة تتمتع بديمقراطيات حقيقية أفرزت استقراراً سياسياً لذا يلتفت مواطنوها لتطوير الجوانب الأخرى. نقول: وما المانع وما الضرر أن نسير نحو الإصلاح والتطوير من مختلف الاتجاهات وفي وقت واحد ونحن مجتمع بحاجة لرفد عملية الإصلاح في كل جوانب حياة المواطن، وعلى أهمية المحور السياسي لا يخامرنا شك في أن مرئيات المحاور تتقاطع لتصب جميعاً باتجاه تحقيق مطالب وطموحات كافة فئات المواطنين، وهذا المنحى لا ينفي على الإطلاق الاجتهاد المكثّف في المطالبة بالحلّ السياسي الرئيس والمتمثل في اكتساب المواطن البحريني سلطات أوسع وأكثر عدلاً في اتخاذ القرار السياسي.
ترى جمعيات المعارضة أن التوافقات الحاصلة في المحور السياسي لا ترقى للطموح المرتقب على صعيد مباشرة المواطن لحقوقه السياسية مباشرة ديمقراطية عادلة، وتبدي تخوفاتها من أن التطوير القادم للعملية السياسية في البحرين قد لا يلبي ذلك الطموح، وحري بالآخرين احترام رؤيتها قبلوا بها أم لم يقبلوا لا الهجوم عليها واعتبارها خارجة عن الصف الوطني بمجرد أن أبدت رأياً مغايراً للسائد، وما الحاجة للحوار إذن إن لم يوضع الاختلاف في الرؤى على الطاولة.
ولكون المحور السياسي رسُّ المشكل البحريني فيما بين الدولة والمجتمع ولكون أوان مصالحة مجدية جامعة مانعة قد حان بل هو اليوم يفرض نفسه فلا منحى منطقي – بظننا- للمضي في عملية تطوير المشروع الإصلاحي دون الإقدام على خطوات واسعة للأمام باتخاذ قرارات جريئة – ملكنا المعظم أهلٌ لها- على صعيد توسيع السلطة الشعبية في دستور المملكة وفي أنظمتها الانتخابية ومؤسساتها التشريعية. وهنا نحن بحاجة فعلاً إلى اجتراح توليفة سياسية ديمقراطية عادلة تلبي حقوق الشعب السياسية وتحفظ في الوقت ذاته للمجتمع أمنه واستقراره دون التفريط في اعتبارات تصون التمثيل العادل لكافة مكونات هذا المجتمع وتتساوق مع الاعتبارات الإقليمية والدولية.
لقد قدّمت جمعيات المعارضة مرئياتها وأدلت الشخصيات المستقلة التي تشارك في مناقشات المحور السياسي بدلوها، وفيما تم تداوله الكثير مما يمكن أن يُدرس ويُغربل ومعه ما قد يراه الخبراء الضالعون في المجال، وفوق هذا وذاك تأتي الرؤية الملكية الثاقبة لنخرج بالتوليفة الناجعة النابعة من خصوصيات هذا المجتمع والملبية لحقوق ومطالب أبنائه وذلك ليس بعسير على البحرين التي يدرك العالم كم هي سبَّاقة ومدهشة في كل مجال
صحيفة الوسط البحرينية – 26 يوليو 2011م