تفرضُ المرحلةُ الراهنةُ الغامضة من وعود الثورات وخطورة تحولها إلى كوابيس جديدة على الأمة العربية وشعوبها، أهميةَ التدقيق والفحص في القوى الاجتماعية السياسية المنتشرة، حيث يقوم التأييد الجماهيري بنفخها وتحولها إلى قوى باطشة.
رجال الدين ليست لهم مواقع راسخة في الطبقات، ولهذا لم يكن لهم موقفٌ متجذر في صراع الرأسمالية والاشتراكية المؤدلج السابق، والمتحطم.
لكن كان رفض التشكيلتين الرأسمالية والاشتراكية سائداً بينهم، لتشكيلة ثالثة موهومة، وشاركتهم في هذا الوهم فئاتٌ وسطى صغيرة عديدة.
لم يبق رجالُ الدين عند المستوى الفقهي التخصصي، بل تبنتْ أراءَهم قوى شعبية عديدة، فلم تكن ثمة تنظيمات سياسية دينية في بداية القرن العشرين، وكان الحراكُ الديمقراطي الحداثي هو الغالبُ في الجماعات السياسية بفضل التغلغل الغربي وضده كذلك.
كانت الأريافُ في بدءِ فيضها السكاني والأزمة الاجتماعية للنظام التقليدي تتصاعد، والعلاقاتُ الرأسماليةُ تتغلغلُ في الأرياف بصعوبة وتؤدي إلى خلخلة وكوارث من دون بدائل، وجاءتْ أولُ موجةٍ للطريق الثالث، طريق رفض الرأسمالية والاشتراكية، من الضباط الأحرار والانقلابات وحتى بعض الثورات الشعبية كالجزائر.
وكان هذا تعبيراً عن ضخامة الفئات الصغيرة والفلاحين وتدفق المقتلعين من الأرياف العربية والإسلامية المأزومة معيشياً. وأيدت هذه الموجاتُ خيارَ رأسمالية الدولة الشمولية كما هو الشأن في الأغلبية الساحقة من دول الشرق وأمريكا اللاتينية، وهو أمرٌ يعودُ إلى مستوى التطور الاقتصادي- الاجتماعي المنخفض في هذه القارات، كما إلى جذورِ الاستبداد العريقة فيها، وعدم تطور الثقافة الديمقراطية.
الآن نجدُ الموجةَ الثانية، حيث اتسعت اضطراباتُ الأرياف والبوادي العربية الإسلامية وملأت المدن، ولم تقمْ الموجةُ الأولى بترسيخ الاستقرار في تلك المناطق الزراعية والرعوية، كما شكلتْ تنميات بإداراتٍ حكومية بيروقراطية تعددت مظاهرُ البناءِ والاختلالات فيها حسب الدول، فيما تضخمتْ التنظيماتُ المذهبية السياسية المؤدلجة للإسلام حسب رؤاها الاجتماعية المأزومة المغمورة بذلك الاضطراب وغياب الانتماء للتشكيلة الرأسمالية الحديثة أو لنقيضها الاشتراكي الكامن، والمتحرك معها بدءًا من بناءات التحرر الوطني ووعود خدمة الكادحين من دون تحقق جوهري لذلك، إلى أن صار هذا النقيض الكامن مُرّحلاً للمستقبل، لكن مازال يسايرُ الكادحين في نضالِهم وتطورهم مُقارِباً أكثر فأكثر البناءَ الديمقراطي الرأسمالي الراهن.
هناك بعض التطور في مواقف بعض الدينيين من التشكيلة الحديثة، فذلك التشنج الأيديولوجي من الحداثة كنظامين إجتماعيين لم يعد موجوداً، لأن الحداثةَ المتصارعةَ تجسدتْ في نظامٍ واحد، مختلف الرؤى، لكننا أمام رأسمالية دولة جديدة بشكل محافظ مذهبي سني هذه المرة، بعد أن ظهرت وتأزمتْ رأسماليةُ الدولة بشكلٍ محافظ شيعي في إيران، فالوقائع في بلدان مثل مصر وليبيا وسوريا تشير إلى هذا المد السني غير المعروف المصير الذي هو بين مقاربة التجربة الإيرانية وبين تجاوزها.
يرجح هذا ضخامة التراكم الديني المحافظ خلال العقود السابقة، رغم جفاء رأسماليات الدول السنية الشمولية للديمقراطية وتوزيع الخيرات على الأغلبيات الشعبية، لكن الموجة الجديدة تطرحها بشكل تداولي للسلطة لكن هذا الأمر محفوف بالصعاب.
فوجود ديمقراطية محضة أمرٌ لا يتحقق، فالديمقراطية هي دكتاتورية ما، ومعركة تداول السلطة ستتحدد عبر الدساتير والصراع حولها. فهذه الأقسامُ المذهبية السياسية تقوم بترسيخ سلطاتها وتكوين دكتاتورياتها من خلال هذا المد الشعبي، الذي يتوجه لتغيير أوضاعه المعيشية والسياسية، وليس لترسيخ كيان سياسي محدد ومحدود.
مدينةٌ مفتتةٌ من قِبلِ الريف كالقاهرة تغلغلتْ التنظيماتُ الدينية داخلها نحو السلطة، وثمة أريافٌ ومدن صغيرة محرومة تتوجه لحصار مدينتي رجال المال والجنرالات في سوريا خاصة أو المدينة الواحدة المهيمنة كما في ليبيا واليمن.
القوس الواسع من القوى الاجتماعية السياسية يبرزُ فيه رجالُ الدين والقبائل، بأطروحاتٍ محافظة، فيما الشباب يحاول القفز نحو المستقبل غير الواضح ولا يمتلك منظمات قوية.
عدمُ انتماءِ رجال الدين ومؤيديهم للصناعة أو للعمال، وتغلغلهم في الملكيات الصغيرة والمتوسطة العقارية والمالية والخدماتية عموماً، وتكون أحزابهم من خطابات مُنتزعة من الإسلام وتقرأ سطوحَهُ المحافظة وتريد إبقاء المسلمين مُفككين مذهبيين في أشكال العصور الوسطى، سيؤدي للصراعات معهم، سواءً كانوا داخل السلطات متحكمين فيها، أو مشاركين أو كانوا خارجها، لأن المرحلة مقاربةٌ أعمق للحداثة من المرحلة السابقة، وتوحيد المسلمين عبر الحداثة والعلمانية والديمقراطية، سيبرز الصراع بين الشباب والقوى الحديثة وبين القوى المحافظة على مصير هذه البلدان.
أخبار الخليج 2 أغسطس 2011