مقدمةٌ حولَ إشكاليةِ حركةِ الواقعِ المعاصر..
مساهمةٌ لفهمٍ أفضل!!
حقاً.. أن من أكثر الأشياء صعوبة بالنسبة لنا معشر الأنام، التحكم بمشاعرنا، حين الصراع مع النفس –الجهاد الأكبر- وعدم قدرتنا بالنأي عن الامتثال لرغباتنا المرجوة، المنفلتة من عقالها، بُغية تحقيق الآمال الدفينة والمداعبة لنرجسية الذات، التي هي بدورها، فريسة عصبيات وانتماءات ضيقة، غير سوية.. (شخّصها مؤسس علم الاجتماع / العمران، “ابن خلدون” في القرن 14 أي قبل 7 قرون).. تأتي من الاستعلاء “القومديني” على بني البشر الآخرين أو بالأحرى من هُذاء “عظمة” الشوفينية القومية chauvinism بجانب اليقينية المتطرفة، المتأتية من منظومة :” السوبر- دينية الطائفية super – religious sectarianism ” ، الخاضعة كلاهما لعاملين:
أولهما: منظومة الموروثات القيميّة للثقافة والذهنية المجتمعية السائدة في حقبة تاريخية معينة، ضمن بقعة جغرافية محددة، خاصة في فترة تتسم بوعي اجتماعي / سياسي متدنٍ..
وثانيهما: طبع الفرد -تركيبته الذهنية والنفسية- الذي هو بالضرورة نتاجٍ مركّبٍ من مصدرٍ معرفي / اجتماعي (مكتسب) وبيولوجي (وراثي)!
فعندما يحاول المرء –جاهداً- أن يكون أميناً مع نفسه ،متجرداً، محايداً ومنصفاً .. في مواجهة حركة الواقع الموضوعيّ- العصيّ على الفهم – المستقل عن إرادته ورغباته… فإن الأمر- قبل كل شيء – يتطلب: الترفّع عن مراضاة النفس (الأمّارة بالسُّوء)، الابتعاد عن اليقينية والأحكام القطعية المسبقة. بجانب ضرورة حيازة المرء لمهارة فردية متقدمة- مسلحة بذخيرة معرفية ثريّة- بالإضافة إلى تطبعه (المرء) بشعور أصيل من الانتماء الإنساني الرحب العميق، الأمر الذي قد يسهّل عليه امتلاك ناصية أفضل أدوات وآليات الرصد وأجداها ، ضمن مختلف مناهج التحليل المتوفرة، في رحلة البحث المضنيّ عن “الحقيقة”! ففي تلك الحال من الطبيعي أن السُّبل قد تنتهي به -في آخر المطاف- إلى مدرسة التحليل العلمي المعروف بـ “المنهج الجدلي” Dialectic Methodology ، الذي ابتكر أو بالأصح استنبط علمياً، قبل 160 عاما ونيف، على أثر الاكتشافات العلمية الثلاثة الكبرى في مستهل القرن التاسع عشر.. ذلك المنهج، الذي استطاع لوحده حل المعضلة التاريخية المعروفة بـ” إشكالية التناقض” problematic of contradiction المتجسّدة، بشكل عام شامل، في مجمل ثالوث مناحي الحياة وخلجاتها: (الطبيعة / المجتمع / الفكر).. وحتى وقتئذٍ ( لدى توفر الشروط المذكورة ) فإن الأمر يتطلب أيضا : الإدراك الصحيح لقانون الجدل الأول “وحدة وتناقض الأضداد” Unity and Conflict of Opposite وعدم الانزلاق لـ” الانتقائية” ” Selectivism ” (Selectiveness) في تناول الفكر العلمي أو الاتكاء على مدارس التحليل الأحادية والحداثية وما بعد الحداثية ( التفكيكية وغيرها..)،المنبثقة من الفرويدية الجديدة (على أهميتها) والمركونة –كلها- على مبدأ “أرسطو” الأساس:” قانون عدم التناقض” - Contradiction Law of Non – ، الذي ثُبت محدوديته وبطلانه منذ أمد بعيد!.. هذا على الرغم من أن شبح “أرسطو” مازال يخيم على جُلّ التحليلات “العقلانية” الحديثة، وان كان أصحابها يتشدقون، مدعين: التشبث بجلباب ” ماركس”!!
لعل هذه المقدمة المنهجيّة، المقتضبة ضروريّة لمحاولة الوقوف على عتبة فهم المستجدات، التي طرأت على الساحة الدولية عشية بلوغ العالم الألفية الثالثة بعد الميلاد، وقبيلها من أحداث تاريخية غير متوقعة (تفكك المنظومة الاشتراكية)، وما تمخض عنها في نشوء وضع عالمي جديد، غير مسبوق، لم تألفه البشرية المعاصرة.. ولم تتوقعه حتى خيرة وصفوة المثقفين والمنظّرين، في شتى أنحاء المعمورة وبين مختلف المستويات الأكاديمية.. ابتداء من دخول العالم مرحلة انعدام التوازن واختفاء “الثنائية القطبية” bipolarism وبروز “الأحادية القطبية” monopolarism ، مروراً بأكثر الإحداث دراماتيكية ونعني الحدث الأبرز في11 سبتمبر 2001 ،الذي أنهى – موضوعياً – علاقة الحبل السّريّ بين الامبريالية وربيبتها، الحركة “المتأسلمة” السياسية المتطرفة (الاسلام السياسي)، المنتجة للإرهاب الفكري والجسدي والعذاب المعنوي والنفسي (أنشئت في البداية على يد الاستعمار البريطاني في شبه القارة الهندية، مستغلا: اجتهادات”المودودي” المحافظة -المنبثقة من أفكار الفقيه الرجعي السوري”ابن تيمية”- واحتضنت في الساحة الأفغانية من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والنظام الباكستاني وبتمويل مادي وبشري من الدول العربية التقليدية المحافظة). ولعل ما اضحى واضحاً في البداية هو وضع عام مرتبك وملتبس أخذ يهزّ بعنف أركان الثوابت، التي كانت قد تأسست واستقرت عليها المنظومات الفكرية والفلسفية المعاصرة، بشقيها المثالية والمادية، وإن بدا ظاهرياً انتصار الأولى على الثانية (خرافة نظرية نهاية التاريخ)!.. بل بات الإرباك جلياً حتى في صفوف النُّخب العليا (السوبر كلاس) وأصحاب النفوذ الكبار المستحوذة على رحيق القيمة الزائدة، بحيث لم تستطع أن تتحكم في رباطة جأشها.. وسال لعابها وانفتحت أساريرها، فاغرة فاها.. وانشقّ أمامها قاع الطمع والجشع البشري الذي لا قرار له.. وتهيأ لها انه من الممكن أن تتخطى أو تنفلت من “روح العصر” zeitgeist والعودة القهقرى بالتطور الإنساني إلى الوراء، ناسين (هؤلاء السادة) لِلَأْيٍ، وهم في غمرة سكرتهم، من أن التاريخ لا يمكن أن يكون أسير رغبات البشر بل هو يتقدم حثيثاً وفق الحاجات الموضوعية للإنسان!.
فمن الطبيعي ان طبقة “السوبر” المهيمنة على دفة القطب الأقوى والأوحد (الولايات المتحدة) وشركائها في المراكز والتخوم تودُّ لو شاء لها، السيطرة الأبدية على مصير البشرية ،من خلال استمرارية سيادة القطب الواحد لأطول فترة ممكنة.. ولكنها تدرك جيداً أن التاريخ لا يشفع لرغباتها لأسباب عديدة، أهمها: أن أمريكا برغم قوتها العسكرية والاقتصادية والتقنية، فإنها تعاني من ضمور بنيويّ- مافتئ يزداد- يتجسد أساساً بأنها أصبحت أكبر بلدٍ مدينٍ في العالم ( حوالي 44 تريليون دولار، أي أربعة إضعاف صافي دخلها القومي، ما يعادل تقريباً عشرين مرة من ميزانيتها، بعجز سنوي متزايد، تجاوز 400 مليار دولار!).. هذا إذ لم نذكر: طباعة “الأخضر” (الدولار) المستمرة والمتزايدة، بأرقام فلكية بلا رصيد أو احتياط ذهب!. بجانب معرفتها التامة (أمريكا) أن العالم يعيش فترة انتقالية، لا يلبث إلاّ أن يتحول إلى عالم “متعدد الأقطاب” multipolarism -آجلا كان أم عاجلا- حيث أن منافسيها الكُثر قد بدءوا بالسيطرة على الأسواق (الاتحاد الأوروبي/ الصين، الهند …. الخ..) وحتى أن حديقتها الخلفية: دول أمريكا اللاتينية (جمهوريات الموز) قد تمردت –جُلّها- مؤسِّسةً أنظمة معادية ومقارعةً لهيمنة “اليانكي” السابقة! فلم يبق لها من منطقة جغرافية واهنة، ذي منحى استهلاكيّ شرِه، سوى المنطقة العربية والشرق أوسطية، الغنية بالنفط والمتّسمة ايضا بموروث تقليدي محافظ واقتصاد ريعيّ ضعيف. لذلك فهي تسابق الريح والزمن من أجل التمكن التام من السيطرة على السوق ومصادر الطاقة الخام، في هذه المنطقة الجيوبولوتيكية الهامة وامتدادها الجغرافي، حوض بحر قزوين الغني بالنفط، وما لتأثير ذلك في محاولةٍ لسدّ الطريق على التمدد الاقتصادي للمارد الصيني ولجم خروج روسيا من كبوتها التاريخية، بل دقّ إسفينٍ بينها وبين الجمهوريات السوفيتية السابقة ومحاولة مستميتة لتنفيذ “مخطط” تفتيت روسيا ،حتى لو استعانت أمريكا بمن تسميهم الإرهابيين”الإسلاميين”، وذلك لأنها مذعورة- لحال هوسية- من اليقظة الاقتصادية للعملاق الصيني والعودة الروسية المرتقبة للساحة الدولية، كون هذه الأخيرة تتمتع وتتفوق على مختلف دول العالم، بامتيازين عظيمين (عدا القوة القطبية الضخمة).. الأول: وضعها الجغرافي “الجيوبولوتيكي “و”الجيواستراتيجي” الفريدين (اليوروآسيا)، وثانيا: ثروة روسيا الباطنية الكامنة والمستقبلية.. وهما تحديان مستقبلان في غاية الخطورة لأمريكا والغرب عموماً، هذا من ناحية.. أما من ناحية أخرى فأمريكا كونها أكثر الأنظمة “ديماغوجية” في التاريخ وأكثرها تركيزاً وتكديساً للثروة المجلوبة من شراء واستغلال قوة العمل من كادحيها وكادحي العالم قاطبة، في حاجةٍ ماسةٍ وحياتية إلى إعادة ترتيب تضاريس ساحتيها الداخلية والخارجية وتشذيب ماكينتها الدعائية على الصعيد الأيدلوجي.. ومن هنا نستطيع أن نرى أهمية إشغال أو انشغال الرأي العام الداخلي، وحتى الخارجي، بعدو وهميّ بعد “الشيوعية”: (الحضارات والأديان الأخرى وخاصة الإسلام!)….
….. يتّبع .. في سانحة اخرى