هناك متعصبون يريدون من الكل ان يؤمنوا بما يؤمنون وان يفعلوا ما يريدون وان يقيسوا كل الأمور على قياسهم وإلا غضبوا وثاروا وتشنجوا وهاجموا وسبوا ولعنوا وهددوا وتوعدوا وخوّنوا وكفّروا وصوّروا أفعال الآخرين ذنوبا وكبائر، ورفضوا كل شيء حتى لو كان خيرا للبلاد والعباد مادامت الأمور لم تتشكل على هواهم، وهذه معضلة كبرى، والمعضلة الأكبر ان التعصب دوما أعمى لا يحكمه منطق او حجة ويدمر ولا يبني. التعصب لا يستقيم مع المواطنة بمفهومها الوطني والإنساني والقانوني والسياسي والأخلاقي، وقيل الكثير في تعريف التعصب وأنواع وأشكال ودوافع التعصب وسيكولوجية التعصب، ومن جملة ما قيل ان التعصب يعني التطرف والانحياز والتشدد، ويعني رفض الآخر، والنظر الى من يخالفك بانه خطأ على الدوام دون ادنى احتمال للصواب، ويعني انك وحدك تملك كامل الحقيقة وتمتلك كل الأدلة على كل شيء فتبرئ وتدين كيفما شئت، يعني ايضا ان تنتصر الى ما تنتمي اليه ظالما ام مظلوما وتجاريه في ظلمه بل وتبرر ظلمه.
التعصب يعني ايضا ضمن ما يعنيه عدم ترك مساحة للعقل، ويعني اننا نفرض على عقولنا وهما نصنعه واكذوبة نعيشها.. وبعض علماء النفس يرونه بانه اتجاه سلبي غير مبرر، وفي مفهومهم انه يعني الحكم المسبق الذي لا يقوم على اساس واقعي لمجريات الأمور، وبانه أداة من ادوات الخطأ التي تكبح استقصاء العقل، والجمعية العامة للامم المتحدة في عام 1981 اصدرت اعلانا بشأن جميع أشكال التعصب للدين او العرق او الطائفة او الايدلوجيا او السياسة بعد ان وجدت بانه ينطوي على احتقار الآخر وعدم الاعتراف بحقوقه وإنسانيته وآثار نوازع الخلاف والصراع والشقاق في مجتمعات كثيرة، وذهبت معظم الدول الى تجريم التعصب في دساتيرها.
يهمنا من موضوع التعصب هذا الذي رأيناه في مشهدنا المحلي والذي تجلى في صور وممارسات وحسابات ومطالب وشعارات وتجاذبات ومشاحنات ومواقف وسلوكيات وكتابات وافعال، أطل منها التعصب بأوجه كثيرة، ووجدنا من تعصب للمذهب والطائفة وظهر لنا محرضا على كل شيء، ونابذا كل شيء، وعنيفا مع كل من يخالفه وترك العنان لمشاعره دون حكمة أو روية، ومن الملة التي تدعي بانها تمارس السياسة وجدنا متعصبين مارسوا الضجيج السياسي ولم يتحلوا بروح المسؤولية السياسية وخصالها، والطامة الكبرى هو تحول السياسة عند بعضهم الى اللاسياسة حينما تعصبوا وانساقوا لمشاعر وممارسات مفرطة في الحيرة ظنا منهم انها حذلقات سياسية تلطت وراء شعارات لم تؤدِ الا الى الخيبة؟
نتحدث عن التعصب والتشدد، واخشى ما نخشاه في هذه الايام حيث الحوار الوطني القائم، هو مسعى البعض ممن لم يستوعبوا مجريات الأمور، او ممن يريدون ان يجعلوا الحوار مطية لطموحات شخصية او انتهازية شائنة او ممن الفناهم يشوهون المعاني لتوجه في الاتجاه المعاكس ليدفعوا بالحوار الى منحى يتفجر فيه التعصب بأي شكل، وفي أي شأن مما هو مطروح في القائمة الطويلة من الرؤى والمطالب والأولويات والحسابات والاعتبارات والاشكاليات والمقاصد المبطنة والنيات الخفية التي لم تنفك تصطرع مما يخشى معه أن يفرز في أحسن الأحوال حصيلة ضبابية تبقي واقعنا مثخنا بالجراح التي تتنظر الرحيل السريع، وهو امر لا نحتمله ولا تحتمله المرحلة العصيبة التي نعيشها ولا حجم الآمال المعقودة على الحوار ومخرجاته، ولكن من يتابع بكثير من اليقظة مسار الامور ذات الصلة بالحوار الوطني، قد يلاحظ بأسى وأسف ان ثمة متعصبين ومتشددين لا يريدون للحوار ان يمضي في الاتجاه المأمول، وآثاروا ما يتباعد ويتقاطع وفق حسابات أقل ما يمكن ان يقال عنها بانها غير نزيهة تؤدي الى خلاصات تثير الغبار في شأن الحوار، ولعل ما اثير في صحافتنا في الايام الماضية بعناوين من نوعية التصلب في الآراء وعدم تقبل الآخر اهم عوائق الحوار، ومتشددون يريدون ان يفتعلوا كوابح لإفشال الحوار، ومشاركون في الحوار يبحثون عن الثغرات لتأجيج الخلافات سعياً لافشال الحوار، ما هو الا انعكاس وترجمة للتعصب والتشدد الذي قد يجر الحوار الى فرعيات وهامشيات بالغة التعرج تشتت الجهود وتدخله مجددا في خانة الهواجس، والمؤسف صورة من صور التعصب الطائفي قد اطلت برأسها في اليوم الاول من الحوار الوطني في المحور المتصل بالجمعيات السياسية. حينما حاول البعض جعل هذه الجلسة مشحونة بالتعصب الطائفي، وقيل بان هؤلاء نسوا انهم يجتمعون من أجل حل مشكلة وليس من أجل التعصب للطائفة وتكريس الطائفية، هذا ناهيكم عن الصور الاخرى للتعصب التي احسبها معلومة للكافة وهي لازالت تمثل صورة من صور الهم العام، وكأن هناك من لا يريد لمجتمعنا ان تتوفر له الحصانات التي مازلنا نعاني من جراحها واوجاعها وتداعياتها وتمنعه من التصدي لمختلف الآفات والانحرافات التي تتهدده والتي منها ما يراد له ان يعيق ويعرقل اي خطوات جادة وحقيقية وملموسة على طريق الاصلاح، لذا كان مهما ومفيدا ان يؤكد جلالة الملك قبل بدء الحوار بانه لن يسمح لأي متشدد يدعو للفوضى والتطرف باختطاف تجربتنا الاصلاحية. دعونا لا نفقد الأمل.. وان كان لابد من التعصب فلنتعصب للحوار الجاد المثمر والبناء.. والذي لا يستجيب للانفعالات ولا للمرارات.. وللأهواء.. والاعتبارات المصلحية الآنية.. لنتعصب لثقافة التوافق وتجاوز الحالة التنازعية الراهنة.. لنتعصب للوطن فهو الهدف الأصل والمنتهي.
الأيام 9 يوليو 2011