تشكل المراحل الانتقالية منعطفات فاصلة في حياة الشعوب والأمم التي تجتازها . فالمرحلة الانتقالية هي عبارة عن رحلة عبور من بنية معينة ومستوى معين من الأنماط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة إلى بنى ومستويات أخرى من أنماط الحياة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى النفسية) المستجدة .
وقد تفرض هذه المرحلة نفسها كنتيجة لحدوث ثورة أو انقلاب أو اضطرابات لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة، أو نتيجة لبلوغ الحالة المجتمعية درجة من الجمود حداً لا مناص للدولة، والمجتمع أيضاً بكليته أو بغالبيته، من وصولهما معاً إلى قناعة بحتمية مغادرة الأمكنة العتيقة والتحول نحو أفق جديد بمحركات تغيير وبناء جديدة .
والمرحلة الانتقالية ليست نزهة سياسية تأنس المجتمعات وتستمتع بأوقات ولحظات عبورها لتخلد في ذاكرتها بحيث تستعيد شريط ذكرياتها الحلوة في أجواء احتفالية كلما عنّ لها أن تستعيد وتستعرض جانباً من جوانب حياتها السعيدة الرغيدة .
بل إنها على العكس من ذلك تماماً، المرحلة الانتقالية عبارة عن درب آلام يطول ويقصر، تبعاً لظروف وحظوظ المجتمع المعني العابر لها، ولكنها بالقطع ليست قصيرة، ففي ظروف القرن الثامن عشر احتاجت فرنسا إلى عشر سنوات كي تتمكن من تخطي الفوضى التي عمت البلاد في أعقاب الثورة الفرنسية لعام 1789 وإلى أربعة أضعاف تلك المدة لكي تستعيد إيقاع دورتها الحياتية الطبيعية .
فكم ستحتاج مصر وتونس للخروج من الهزات الارتدادية للاضطرابات والفوضى التي عمت كافة قطاعات الإنتاج المادية والخدمية في البلدين في أعقاب الثورتين الشعبيتين اللتين اندلعتا في يناير الماضي وأطاحتا بنظاميهما السياسيين؟
من المعروف أن قطاع السياحة في البلدين يضطلع بنصيب وافر من إجمالي الناتج المحلي ومن الإيرادات الحكومية السنوية في البلدين، فهو في تونس يشكل مركز الثقل في القطاعات والأنشطة الخدمية التي يبلغ نصيبها 8 .49% من إجمالي الناتج المحلي البالغ في عام ،2009 44 مليون دولار . وهو في مصر يكاد يكون مركز الثقل الرئيسي في قطاع وأنشطة الخدمات الذي يشكل 6 .48% من إجمالي الناتج المحلي البالغ نحو 218 مليار دولار، هذا فضلاً عن القطاعات الصناعية التي تسهم بنحو 13% من إجمالي الناتج المحلي لكل من البلدين . وإذا علمنا حجم الأضرار التي لحقت بهذين القطاعين الحيويين في البلدين، ونسبة مساهمتهما في إجمالي الناتج التي تقارب الثلثين فلنا أن نتصور خطورة الوضع الذي آلت إليه الأوضاع العامة في البلدين في أعقاب ثورتيهما الشعبيتين .
وإذا كانت مصر تتمتع بامتيازات تعطيها أفضلية وفرص نجاح تزيد على تلك المتوفرة لدى تونس، من حيث أن لدى مصر ثلاثة مصادر دخل أساسية غير خاضعة للتأثيرات السلبية لحالة الاضطراب العام التي تسود مصر منذ اندلاع ثورتها الشعبية ونعني بذلك مداخل قناة السويس وعقود بيع الغاز المصري للخارج وتحويلات العاملين المصريين في الخارج – فإن البلدين يشتركان في إشكالية كيفية وسرعة استعادة قطاعيهما السياحي والإنتاجي لوتيرة أدائهما لما قبل أحداث ثورتيهما .
الدولتان بحاجة في مرحلتهما الانتقالية لإعادة وسرعة وضع قطاعيهما السياحي والإنتاجي مرة أخرى على سكة النمو ما قبل الثورتين لكي يسهما بحصتهما المهمة في إجمالي الناتج السنوي . وكي يتحقق هذا الأمر لا بد من انتهاء كافة أشكال مظاهر الاضطراب التي مازالت تتخلل بعض مناحي الحياة اليومية في البلدين وتؤدي إلى حدوث انقطاعات في انتظام دورتها الاعتيادية، أي يتعين استعادة حالة الاستقرار التي تشكل حجر الزاوية بالنسبة إلى القطاعين الاقتصاديين الحيويين المشار إليهما على نحو خاص .
وبهذا الصدد فقد كانت لافتة تلك “الرسالة” التي دبجها في مقالته التي نشرها على أحد المواقع الإلكترونية المفكر التونسي المخضرم “العفيف الأخضر” وعنونها إلى رئيس الحكومة الانتقالية التونسية الباجي قائد السبسي . فلقد كانت رسالة صريحة ومعبرة عن قراءة دقيقة واستيعاب ذكي ومتزن للحال التي آلت إليها الأوضاع في تونس ما بعد الثورة الشعبية التي أطاحت نظام الرئيس زين العابدين بن علي .
فقد رسمت الرسالة صورة بانورامية حرص صاحبها على تضمينها تفاصيل التجسيدات الفوضوية الحية التي تعتور الحياة التونسية وحال اللايقين الذي تعيشه البلاد التونسية منذ إطاحة النظام السابق . وتأسيساً على تشريحه الجسور والعميق لمظاهر القيح والتقرحات التي بدأت تظهر على مختلف أوجه الحياة التونسية وتنخر في مواردها ومؤسساتها، فقد قدم العفيف الأخضر جملة مقترحاته العملية لرئيس الحكومة التونسية المؤقتة، التي تصلح من وجهة نظرنا المتواضعة، لأن تكون “روشتة استرشادية” لكيفية مقابلة تحديات المراحل الانتقالية التي وجدت عديد البلدان العربية نفسها فجأة فيها، باحثة عن مخرج سالم وآمن منها .
ولعل من المفيد إيراد أبرز هذه الوصايا:
1) أنت – يخاطب رئيس الحكومة التونسية الباجي قائد السبسي – مذ كنت وزير خارجية بورقيبة تكتفي فقط بتشخيص الداء من دون أن تصف الدواء . اشتكيت محقاً من خطر الأموال التي تتسرب إلى بعض الأحزاب، ولكنك كالعادة لم تكشف اسم المرسل ولا اسم المرسل إليه ولا كمية المبالغ التي سيكون لها بلا شك تأثير ليس فقط في نتائج الانتخابات من خلال شراء الأصوات بالعمل الخيري، وإنما في مصير البلاد . الصمت على المجرم تواطؤ معه . أما وقد تخلخلت جميع مؤسسات الدولة فلم يبق لك إلا سلاح وحيد هو تعبئة التونسيين الخائفين على حاضرهم ومستقبل أبنائهم، وسلحهم سياسياً وأخلاقياً بالحقائق . قل لهم أسماء الأحزاب والشخصيات التي تعمل على خراب بلدهم . يقول سارتر: “كشف اسم الجلاد يشله” .
2) إن الفوضى الزاحفة آتية من فشل الانتقال، السلس نسبياً، إلى دولة القانون . دع وزارة الخارجية تطلب من سفارات تونس في جميع البلدان التي نجحت في الانتقال إلى الديمقراطية في أوروبا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا تزويدها بتقارير عن تلك التجارب .
3) إن المدخل لرد الاعتبار للدولة وللقانون وللمؤسسة الأمنية المصالحة الوطنية الشاملة والفورية .
4) اعمل على تشكيل خلية من الاقتصاديين والسوسيولوجيين والانثروبولوجيين والديموغرافيين تساعد الوالي على صنع القرار الصائب لتنمية ولايته بما يحقق التوازن النسبي بين الجهويات الغنية والفقيرة . وينبغي إنشاء هذه الخلايا في كل وزارة وفي كافة المؤسسات الأخرى .
5) أن تقوم حكومتك منذ الآن بوضع اللبنة الأولى لمشروع إعادة برمجة أدمغة الناشئة، مستفيدة من التكنولوجيا الجديدة وفتوحات العلوم المعرفية على غرار ما فعلت فرنسا حيث أعلن وزير التعليم الفرنسي أنه سيدخل إلى التعليم “الرسائل ما تحت الشعورية” لإعادة برمجة أدمغة الأجيال الفرنسية الجديدة بالقيم الإنسانية، وباللاعنف، وبحماية البيئة واحترام القانون . والرسالة ما تحت الشعورية يستقبلها المتلقي من التلفزيون أو الإنترنت دون شعور بها، وإذن دون مقاومة لها، يجعلها بالغة التأثير، وقد استخدمت حتى الآن بصورة سلبية في الإعلان التجاري المسؤول عن الشراء القهري، المتمثل في سيطرة إغواء الشراء المفرط ذي التبعات السلبية .