تضعُ العلمانيةُ الشروطَ الكبرى الأولى للديمقراطية، فتفصلها عن العصر الوسيط، الذي تشكلت فيه الصراعاتُ السياسية بشكلٍ ديني، فتمهد وتؤسسُ للدول القومية والوطنية وللأسواق الكبرى لهذه الشعوب، وتفككُ الحواجزَ التي أقامتها الأشكالُ الكثيرة للطوائف والملل والقبائل التي عزلتْ الجغرافيا البشرية وقوى الإنتاج عن توحدها وتعاونها المفترض، ومن هنا يقود نفي ذلك لثورة التقنية والعلوم.
العقلانية مرحلة أخرى لهذا الحراك التحويلي للبُنى المحافظة الذهنية والاجتماعية التي تكرستْ في حياة الشعوب عبر ألوف السنين الماضية.
العقلانية تطلق العلوم لتحريك قوى الإنتاج، من أجل تطوير الآلات والمصانع، والطوائف هنا تلتحم في أمكنة الإنتاج وفي البلدان.
حين نرى الآن الحراك الثنائي المتناقض في العالم الإسلامي بين الشيعة والسنة، ونجد أن النظام الشمولي الديني حجز كثيرا من الشيعة عن الانخراط في الأوطان التي ينتمون إليها، فغياب العلمانية عن إيران أدى إلى حراك سياسي انقسامي واسع النطاق، وبهذا بدلاً من أن تؤدي التطورات السياسية التحديثية إلى توسع العلاقات بين الإيرانيين والمسلمين والبشر عامة، أدت إلى سلسلة من الحواجز والانقطاعات في البلدان.
نتائج الصناعة والتطورات العلمية التي تدخل في باب العقلانية تتوقف ثمارُها مع الانحباس السياسي، وتؤدي العسكرة إلى تعريض ثمار الثروة للخسائر.
في حين راحت الثورات العربية الراهنة ذات القواعد السكانية السنية المسيحية الشيعية المتحدة نحو تصعيد العلمانية إلى درجة مدنية غير محددة، بسبب ظروف الثورات التي أدت إلى ضرورة الوحدة تجاه أنظمة استنزافية للثروات، وإلى التوجه للتركيز في السياسي، واحتذاء التجربة التركية، لكن المسار يبقى غير محدد في المستقبل.
الخطورة تكمن هنا في عدم رفع ثقافة العلمانية، ويكون للدول والجماهير ذات الأصول المذهبية السنية مخاطر في عدم التحديد هذا، وعدم التركيز في التطور السياسي الاقتصادي.
ففيما أدت التجربة الإيرانية إلى مخاطر جسيمة وتمزيق عدة دول عربية في مختلف جوانب الوجود السياسي، من الخطورة أن ينتقل التمزيق إلى بؤر البلدان العربية الكبيرة المركزية.
فحدوث الصراعات داخل هذه البلدان وهيمنة القوى الدينية المحافظة وصراعاتها مع بعضها بعضا، ينقل ما جرى ويجري في الأطراف كباكستان وأفغانستان وغيرهما إلى القلب من وجود الأمة العربية.
التجربة الإيرانية فككتْ العراقَ وبعض مناطق الخليج ولبنان فحتى السوق على الطبيعة الرأسمالية العادية تعرقله وتفتته وظهرت العقوبات وتفشى الإرهاب.
إن السياسة المذهبية هي عودة لتفكك الاسواق، ولإضعاف قوى الإنتاج البشرية بعزل النساء، وبإضعاف تقنية الإنتاج بعدم تطور العلوم التي يجب ألا تقف أمامها محاذير دينية واجتماعية.
وجود التكوينات المذهبية المنفصلة يؤدي إلى ضرب السوق الوطنية وقوى الإنتاج التي تعرضتْ للكثير من المشكلات في الحقبة السابقة، حقبة رأسمالية الدولة الشمولية، والتي تتطلب الآن مع ضرورة ازدهار الرأسمالية الحرة سوقاً واسعة ليست وطنية فحسب بل عربية وعالمية، إضافة لنمو الوعي العلمي لدراسة مشكلات الإنتاج.
أدت هذه الأشكال المتخلفة من الوعي إلى فصل الجناح الشرقي من العالم الإسلامي عن قلبه وغربه، لعدم إمكانية إيجاد سوق عربية إسلامية كبرى، والمأساة حين تنتقل هذه الأشكال التمزيقية من الوعي إلى قلب الوطن العربي.
إن ثورة سوريا تحاول ردم هذه الهوة في أحد الجوانب الجغرافية المهمة. فيما حراك أفغانستان وطالبان يحمل رياح التفتت والقبلية والمذهبية إلى الدول المتوحدة.
لو أن الحراكَ السياسي الإيراني أخذ بالعلمانية والديمقراطية لكان الموقف مختلفاً، لأمكن ظهور تطورات اجتماعية تحديثية واسعة جداً.
والشكل المتخلف المذهبي يقود إلى فقدان الثروة مرة من خلال البذخ العسكري ومرة من خلال ترحيل الرساميل للغرب، وبخلاف ذلك ومع وجود تلك السوق الكبرى من إيران حتى مصر لن تكون الأشكال العسكرية المتطرفة ممكنة كما أن الرساميل سوف تصبُ في هذه السوق الكبرى.
لم توجد السوق الأوروبية المشتركة من دون الديمقراطية والعلمانية وبالتالي هذه ليست مفردات سياسية وعقلية بل مفردات اقتصادية في جوهرها، أي هي وضع الأساس الواسع للطبقات الوسطى، وللتجارة الحرة، والسلام وتطوير الأرياف الجامدة.
في حديث وزير الخارجية التركي أحمد أوغلو قبل أيام حول التجربة التركية أشار إلى ما يشبه هذه المعاني بلغة عامة سياسية دقيقة.
إذا لم تتبن الدول والتنظيمات هذه الأساسيات في عملها السياسي الفكري المؤسس فالحديث عن الديمقراطية كعدمه.
أخبار الخليج 30 يونيو 2011