ثمة أخبار من النوع الذي لا ينبغي أن تمر مرورا عابرا، أو تمر بلا مبالاة، او نمر عليها مرور الكرام، او كيفما كان بغير صدى يذكر، بل هي تستوجب الانتباه والتأمل ليس فقط لان هذه الأخبار تثير قدراً لا يستهان به من التساؤلات وعلامات التعجب والدلالات بالغة الأهمية، وليس لأنها في نفس الوقت لا تدع مجالا للشك في تبيان مدى الحاجة الى التقييم والمراجعة وتفعيل المساءلة لكثير من مجريات أمورنا وتثبت لنا بأن هناك خللا يحتاج الى علاج، بل لأننا أيضا وبالإضافة الى ذلك نعيش مناخات حوار وطني لا نراه بأنه سيغفل العنوان المحوري الجامع لما تعنيه مثل هذه الأخبار، ولن نسمي هنا هذا الشيء باسمه ما دام هذا الاسم يفرض نفسه ويعبر عن نفسه في مجالات ومواقع شتى.
وعلى أي حال فإن الذين يتمتعون بموهبة الرصد والتحليل والربط احسب بأن عليهم ان يولوا مثل هذه الأخبار اهتماما كافيا من سائر الوجوه لعلهم يخلصون الى ما يستدعي لفت انتباهنا إليه سواء على صعيد دلالات هذه الأخبار او القاسم المشترك التي يجمع بينها، وربما يفاجئونا بخلاصات واستنتاجات ليست في الحسبان.. ربما..!
نكتفي هذه المرة على الأقل بالتوقف عند ثلاثة أخبار من النوع الذي يفرض الاستدعاء، وان كان من اليسير استقبال المزيد من مثلها، أخبار تحمل ظاهرا عناوين باعثة على التأمل، وفي المضمون نراها تثير ما يبعث على الأسى، وفي هذا السياق لا مناص لنا أولا من التوقف عند هذا الخبر المنشور في هذه الجريدة «12 يونيو 2011» ومن دون الخوض في تفاصيله فهو يتضمن تصريحات لعدد من نواب كتلة المستقلين حول مسألة تعاطي النواب مع تقارير ديوان الرقابة المالية، ورغم انهم لم يأتوا بشيء جديد، الا ان اللافت ان هؤلاء النواب يرفضون ان يتهموا بعدم الجدية في التعامل مع هذه التقارير من دون أن يطرحوا أي حيثيات مقنعة تبرر هذا الرفض، ولكنهم، وللدقة فإن احدهم يقر بان مجلس النواب لا يستخدم صلاحياته!، وان «المخالفات في تقارير ديوان الرقابة تتكرر وتتضاعف»!، فيما يقر آخر بان «تقارير الديوان كلها فساد ويجب ان يكون لنا وقفة»!! ويشير الى انه لم يسمع حتى الآن عن إجراء واحد اتخذ بوزارة او جهة حكومية مخالفة..! فيما أبدى ثالث حيرته واستغرابه حينما تساءل «هل من المعقول ان يصدر ديوان الرقابة المالية 7 تقارير ولا تنفذ توصية واحدة ولم يحاسب مسؤول واحد ثبتت مخالفته للقانون والدستور»؟!
لاحظوا ان تلك الآراء لنواب، واي نواب، نواب يمثلون الآن اكبر كتلة برلمانية وهي آراء بوسعنا ان نسجل عليها ملاحظات عدة لا تسر النواب قبل غيرهم، ولكن نحسب ان أول ما يعنيه ذلك هو ان نوابنا لازالوا عاجزين عن تفعيل دورهم الرقابي وغير قادرين على فرض قيمة المساءلة في العمل العام، واذا كان لابد ان نكرر تحفظنا على الطريقة التي أصابتنا بالدهشة والصدمة في آن، حين مرّر النواب تقريرين معا لديوان الرقابة المالية في جلستهم الأخيرة من دور الانعقاد الحالي في غضون نحو نصف ساعة وعلى النحو الذي تناولناه في وقت سابق، وهو أمر لا أراه سيسقط من ذاكرتنا لان تلك التقارير التي تستحق كل اهتمام فوق العادة، لم تقابل سوى بخطوة خجولة تنحصر في هذه الظاهرة الصوتية للنواب الذين ألفناهم في كل مرة يستثمرون موسم عرض هذه التقارير على مجلس النواب بسيل من التصريحات والعنتريات الاستعراضية والتلويح باستجوابات وبلجان تحقيق وبأسئلة نيابية رتيبة ثم ما تلبث الأمور تعود إلى سباتها العميق وكأن شيئا لم يكن.
لا تخلو الخلاصة هنا من تأكيد على إننا لا نحتاج الى نواب يركزون على المطالبة بفتح شارع، او تعبيد طريق، او إنشاء مجاري في هذه المنطقة او تلك، او إنشاء مركز صحي ووساطات أحيانا مخالفة للقانون ومطالبات خدمية ومناطقية شتى مكانها البلديات، وانما نريد نوابا يتبعون الأصول ويؤتمنون على المحاسبة الصارمة المحترمة والمنزهة عن أي مساومات او ترضيات او حسابات او اعتبارات او مجالات او مناكفات مفتعلة.
المشهد حافل بما يقلب المواجع، حيث بوسع المرء ان يلفت الانتباه إلى هذا الخبر الثاني المنشور في الصحف المحلية «15 يونيو 2011» بعنوان سيء في دلالته «فساد مالي وإداري بمستشفى الملك حمد فاق التوقعات» واعتقد إننا لسنا في حاجة إلى تكرار ما نشر، ولكن اللافت أولا في هذا الخبر انه جاء على لسان رئيس لجنة التحقيق في تجاوزات المستشفى، وهو وبالمناسبة احد أعضاء كتلة المستقلين واللافت ثانيا قوله: «ان التجاوزات شابتها سلسلة من الفساد المالي والإداري وان ميزانية المشروع وصلت الى 94 مليون دينار فيما قيمة المشروع لا تتجاوز 40 مليونا إلى جانب عدم مطابقة بعض الأجهزة والمعدات للمواصفات» وينبهنا النائب المحترم ان الأيام القادمة، – نكرر الأيام القادمة – ستكشف الكثير من هذه التجاوزات وعن أسماء المتورطين فيها وحجم الأموال المصروفة عن هذه التجاوزات، ويهمنا هذا الشق الأخير بقدر أكبر.
فاذا تحقق هذا الذي وعدنا به سعادة النائب بالكشف عن حقائق تلك التجاوزات بالتفاصيل وبالأسماء وبالأرقام في الأيام القادمة، فإن هذا سيكون في حد ذاته أمرا مهما وجديدا علينا يستحق ان يحتفي به، وربما إن حدث يكون ذلك بداية ارهاصات نحو تأكيد الجدية في إرساء قيمة المساءلة ومحاربة الفساد ومحاسبة الضالعين فيه، وعلى أي حال مرت أيام وأيام ولا زلنا في انتظار الوعد والأيام التي هي في رجم الغيب ولكنها آتيه دون ريب ان شاء الله.
لا يفوتنا ونحن ننتقل الى الخبر الثالث المنشور في الصحف «29 مايو 2011» ان نسجل ملاحظة بأن الحسابات الختامية للعام الماضي لوزارات وجهات حكومية عدة أظهرت تجاوزا على الميزانيات المعتمدة، وعليه أقر مجلس الوزراء محاسبة تلك الجهات على تجاوزات الميزانية، وذلك يفترض انه يعنى، وهذا ما نأمله، إن المتابعة والمحاسبة الجدية التي يفترض أيضا ان تكون مقرونة بالشفافية الفعلية قد آن أوانها في كل ما يتعلق بمسار ميزانية كل وزارة ومؤسسة وهيئة رسمية وبالتالي الميزانية العامة للدولة.
نعلم ان هناك مآخذ وتجاوزات وانحرافات ومظاهر فساد بالجملة في وزارات ومؤسسات رسمية عدة تتطلب تدخلا سريعا جدا. وان كانت تقارير ديوان الرقابة المالية تكشف في كل مرة تجاوزات وإخفاقات تتصل بالميزانية والإنفاق العام، وكيف ان بعض تلك الجهات لم ترسِ حتى الآن دعائم ثابتة فيما يخص المالية العامة إنفاقا وإيرادا وعجزا ومتابعة وتنفيذا ودقة وأولويات ومراقبة الإيرادات، وسلامة إجراءات الصرف وضبط المصروفات والعجز، والشفافية، فإن ما يضع حداً جادا وحازما لأي مخالفات صارخة لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تقع في أي جهة رسمية، هو أمر لا ينبغي ان يكون مستعصيا ولم يعد مقبولا ان يكون في حكم المجهول. خاصة ان هذا أمر لا شك في ان كل البحرينيين مجمعون عليه.
استخلصوا من تلك الأخبار ما شئتم، وان كانت مجرد عينة ليس إلا.. ولكن المهم والمختصر والمفيد هو إننا بعد المراوحة الطويلة في حاجة إلى حراك وطني ينهض بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية والإنسانية وينتصر للشفافية والمحاسبة والمساءلة ويجتث الفساد.. هذا أمر لابد ان يتحقق على وجه السرعة، وخير البر عاجله..!!
الأيام 25 يونيو 2011