لا أحد يستطيع الآن بعد تضحيات الشعوب العربية في كل مكان، بأشكالٍ ملحمية، تقتربُ من الأساطير، أن يلوم أو ينتقد هذه الأمة العظيمة، وأنها مقصرة في وجودِها، وأنها لم تقدرْ أن تستوعب وتحتضن كل إبداعات الحرية والتضحية، ومن لا ينحن مقدراً لها، ومن لا يرقص فرحاً لبطولاتها، ومن لا يُذهل من إبداعات اللحم الذي يكسرُ الشوكَ، ويثني الجبالَ فهو لا يشهد ولا يعيش.
إن المبدعين يقفون إجلالاً ويتطلعون لتضحياتهم في كتابة الحروف النار ونسج الكلمات البحار وكأنها قطرة في محيط العجائب النضالية العربية. فكيف يمكن أن يمدح أحدٌ عمله وهو يرى الناس تجود بأعز ما لديها؟
لا يمكن لنا بعد هذه الملاحم المسجلة بالدم على النيل والصحارى العربية العطشى والمدن والبلدات والقرى إلا أن نتواضع ونخجل ونقول لقد قصرنا ويئسنا سنين وأن الإنسان العادي الذي صاغ الملاحم في بضعة أقطار هي النسيجِ الرئيسي للأمةِ إن كتابتها أعظم، وسطورها أكثر خصوبة.
والإبداع لابد أن يزدهر بشكل أروع رغم انغلاق بعض الأسواق وصمت دور النشر وذبول المطابع وتعثر السوق، في حين يتطلب ازدهار النضال فيضاناً للنشر كما يتطلب الموقف الملحمي.
لكن تعاظم ملاحم الحرية العربية يغنينا والتضحيات تعلمنا وبخل دور النشر لا يهمنا.
هل هناك أمةٌ ابدعتْ دماً وحروفاً مثل هذا؟
فلننحن إجلالاً لهؤلاء البسطاء وعرفاناً بتضحياتهم.
الثورات العربية غيرت كل شيء، ولن يعد ثمة دولة أو جماعة سياسية ستبقى كما كانت، مهما تظاهرت بالهدوء، ومهما قالت إن العاصفة لا تعنيني.
ليست الثورات العربية مثل ثورات القرن الثامن عشر والتاسع عشر الأوروبيين، رغم المقاربة بينهما في بدء صعود الطبقات الوسطى لتشكيل مجتمعات ديمقراطية، فتلك الثورات التي رفعت شعارات الاخاء والمساواة والتنوير، تجاوزتها الإنسانية المعاصرة، بعد عقود طويلة من التحديث والتصنيع والاستعمار وحروب الاستقلال، وقد أضحت أسس الديمقراطية الاجتماعية أكثر وضوحاً، وغدت برامج الطبقات المختلفة مميزة، فلا يمكن أن تسود شعارات مجردة، وكل طيف من الطبقات لها برامجها لأن مصالحها غدت واضحة، والتجربة الحزبية غدت ذات تاريخ طويل.
لكن رغم هذا التاريخ فالشعوب العربية متخلفة وهي ربما أقل تطوراً من ذلك التاريخ الأوروبي، حيث هنا أمية هائلة، وحريات النساء أقل بكثير، والتصنيع طابعه مختلف، وثمة انفصام لأقطار عديدة عن التطور، ومازالت الأقطار المركزية تصارع من أجل أن تبلور التجارب الديمقراطية، والقوى الماضوية تصارع للبقاء والعودة.
لكن الملحمة موجودة ومكتوبة بالدم، وتاريخ التضحيات كتب بقوة وفتح صفحة جديدة لا يمكن أن تعود إلى الوراء، وغدت مهرجاناً للبشرية.
ليس في الأمة العربية مثل جان جاك روسو وفولتير وديدرو وهيجل المشاهير العالميين ففيها أكثر وأعمق، ولكن على نحو قطري أو عربي محدود، فإبداعات العرب خلال القرن الأخير كانت هائلة، وإبداعها في الأدب ليس له نظير ولكن هي مسألة التخلف والأنظمة القديمة المحتكرة للثروات، والآن لابد أن تظهر هذه الإبداعات وتنتشر جماهيرياً وعالمياً، والديمقراطية تعني أن تصل هذه الثقافة إلى الأجهزة الجماهيرية، فهذه الإبداعات وهؤلاء المفكرون هم من عبدوا لهذه التحولات.
أخبار الخليج 25 يونيو 2011