المنشور

الديمقراطية التمثيلية


لا أدري كيف شاعت بيننا وترسخت في أذهاننا المقولة الإغريقية القديمة القائلة إن الديمقراطية هي حكم الشعب من الشعب وللشعب، وذلك في تسطيح وابتسار مخل بالتراث الغزير والعظيم الذي خلفته لنا الفلسفة اليونانية وجهابذتها الكبار مثل طاليس أبو الفلسفة الفلكية الذي أدهش في القرن السادس قبل الميلاد سكان ملطيا عندما ذكر لهم أن الشمس والكواكب (التي كانوا يعبدونها كآلهة) ليست سوى كرات من نار، وتلميذه انكسمندر (610 – 540 قبل الميلاد) الذي كان أول يوناني يضع خرائط جغرافية وفلكية والذي شرح بأن التاريخ الفلكي يعيد نفسه في أوقات دورية في نشوء وانحلال عدد من العوالم لا حصر لها، وأناكسمانس (450 قبل الميلاد) الذي أشار إلى أن الأشكال الثلاثة للمادة: الغاز والسائل والجامد كانت مراحل تقدمية للتكثف، وهرقليطس (530 – 470 قبل الميلاد) القائل إن جميع الأشياء تجري وتتدفق وتتغير، وحتى في أكثر المواد سكوناً هناك تدفق وحركة غير منظورة .
 
وبعد هؤلاء هناك سقراط الذي عُد قبل أكثر من ألفين وثلاثمئة سنة أحكم أهل اليونان الذي رفض بإباء طلب الرحمة من جموع الدهماء التي تجمعت لمشاهدة عملية إعدامه بتهمة الفساد الخلقي بسبب دعوته الشباب إلى التحرر من الخرافات والأساطير القديمة، وتشكيكه في تعدد الآلهة وإيمانه بإله واحد . وكانت لدى تلك الجموع في تلك اللحظة السلطة في أن تعفو عنه لأن القضاة أرادوا إطلاق سراحه ولكنهم كانوا محرجين مع ترديد الدهماء هتاف “أعدموه . . أعدموه” فرفض استرضاءها وطلب كأس السم ليتجرعه، فكان ذلك أعظم موقف للنخبة الأثينية من الديمقراطية الشعبية .
 
وهنالك تلميذ سقراط، أفلاطون الأرستقراطي الأثيني صاحب أعظم مساهمة منهجية فكرية في تنظيم وإدارة المجتمعات، والذي شهد عملية إعدام معلمه وصديقه سقراط، وكان عمره يومها 28 عاماً، وهو الأمر الذي رسخ لديه فكرة الاستعاضة عن الديمقراطية بحكم الأعقل والأفضل من الرجال، والذي رسم له خريطة طريق، ينم الجهد الذهني الذي بذل في إنتاجها وإخراجها، عن عبقرية خارقة بغض النظر عن مثاليتها المترفة .
 
ولعل هذه المثالية المغرقة في حلمها بذلك المجتمع الفاضل المنشود هي التي “حرضت” تلميذه أرسطو في ما بعد على ابتداع مقاربة أخرى أكثر قابلية وعلمية للإدارة المجتمعية الكلية الحصيفة .
 
بهذا الصدد يقول أرسطو إن أفضل نظام عملي للحكومة هو الأرستقراطية، وهي حكم القلة من المثقفين وأصحاب المؤهلات والمقدرة، ولكن وبما أن هذه الأرستقراطية مرتبطة بطبيعة حب المال الأبدية، بما يجعل المنصب السياسي، إن عاجلاً أو آجلاً، لمن يستطيع أن يدفع أكثر، فإن أرسطو هنا يستعين بآلية الديمقراطية للتخفيف من وطأة وجموح الأرستقراطية الرغائبي اعتباراً من أن الكثرة أقل استعداداً من القلة للفساد والإفساد على حد قوله .
 
وعندما يصل أرسطو إلى السؤال عن السبل إلى إيجاد أكثرية ساحقة لدعم الحكومة الدستورية التي يقترحها، فإنه لايتردد في ترشيح الطبقة الوسطى للنهوض بهذه المهمة .
 
وهذا موقف يتسق مع مقاربة أرسطو الوسطية بين الديمقراطية والأرستقراطية (الحكومة الدستورية هنا)، فهو يقول إنه “ستتوافر في دولتنا ديمقراطية كافية إذا كان الطريق لكل منصب في الدولة مفتوحاً أمام الجميع، وأرستقراطية كافية إذا أغلقت أبواب المناصب ولم تفتح إلا للمتعلمين الذين قطعوا شوطاً طويلاً في التعليم” .
 
وهكذا، فإن الديمقراطية التي بشّر بها فلاسفة أثينا الثلاثة العظام: سقراط وأفلاطون وأرسطو، هي ليست الديمقراطية الشعبية المتوافق (بفتح الفاء) عليها عالمياً ويجري العمل بها كأداة إدارة مجتمعية كلية في بلدان العالم كافة التي اختارت الديمقراطية كمكون أصيل في استراتيجياتها التنموية الشاملة .
 
ونظن أن تجربتي التحول الديمقراطية في كل من سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، لا تبتعدان كثيراً عن رؤية ثلاثي أثينا الفلسفي ثاقب النظر .
 
المشكلة بالتأكيد ليست في الديمقراطية وإلا لكانت أفلست وأغلقت أبواب “مقارها الرئيسة” في بلدان المركز (الديمقراطي)، وهي هنا الدول الصناعية المتقدمة .
 
المشكلة تكمن في مدى توافر الوعي الكافي بها أولاً، وثانياً في مدى الإيمان العميق غير المهزوز بها (فلا يكفي الوعي بها وحده)، وثالثاً في ممارستها وفقاً لأساليب وتقاليد مسؤولة .
 
وكما نرى فإن توافر هذه المقومات الثلاثة في بيئات مجتمعية هشة البنى، هو مراد صعب المنال، ما يفسر إخفاق تجارب “الحشر” القسري للديمقراطيات الشعبية في عديد هذه المجتمعات بصورة اصطناعية ليس بهدف زرع بذرتها في تربة قاحلة، بقدر التماهي الاضطراري مع تيار التحديث والتمدين العالمي .
 
وبذا نحسب أنه لكي تنجح مثل هذه التجارب “الديمقراطية المخبرية” يتعين في البداية توفير شروطها، بما يعني تهيئة التربة المراد زرعها فيها، وذلك من خلال العمل المنظم والمثابر في اتجاه واحد يركز على إحداث تحول عميق في الثقافة السائدة لمصلحة احترام سيادة القانون واحترام الآخر ومقاربة المستويات المعيشية بصورة تقلل التهميش والإقصاء الاجتماعي إلى الحد الأدنى .
 
 . .وإلا فإن نجاح مثل هذه التجارب سيظل موضع تساؤل وتشكك، ليس هذا وحسب، بل إن ممارسة الديمقراطية على ذلك النحو الانتقائي والمجتزأ يمكن أن تتسبب في إحداث مزيد من البلبلة والاضطراب في الجسم الاجتماعي والاقتصادي .