جاء أهلُ الحارات والمدن والقرويون من خريطة الجزر.
حملوا ديونَهم وأعباءَهم وزجاجات دمهم. قدموا من الأراضي المُباعة، ومن الحقولِ التي اصفرت وذبلت، ومن البساتين الخضراء على مدى النظر، ومن المغاصات والهيرات والسفن الشراعية الكبيرة ومن أعماق البحر.
سلموا أولادَهم وبناتهم لشوارع الكلمة والبحث عن شعبٍ جديد حديث في عمق الخليج الصحراوي البحري المستيقظ على طبول الحرية.
أرسلوا الصيادين الذين فقدوا بحارَهم وأسماكهم يتحدون بالقوارب الطرادات والمدمرات يرفعون راياتهم الوطنية.
هتفوا بصيحاتِهم شبه الأمية، لا يختلفون عن آبائِهم ذوي الإزارات يتحدون الباليوز والقراصنة.
جاء القرويون لمعمل التكرير بفؤوسهم.
نظفوا الصحراءَ من كل الحصى، وأسسوا بيوتاً وحدائق صغيرة.
شعشعتْ الأضواءُ في القرية، وبُني المسرح، وظهرتْ النساء للحرية!
اتحدتْ سفنُ الغوص القادمة من القرى والبلدات الصغيرة، تجمعوا يقطفون المحارَ ويبنون الدروب والبيوت.
ذهب المتعلمون إلى الهند وبيروت ومصر وجلبوا الكتب والصحف ونشروها في الأندية.
نزلتْ الحشودُ من المواطنين في الشوارع تطلب الحرية والاستقلال، سالتْ الدماءُ غير المعروفة من أي حي وقرية وحارة تدفقتْ، تمازج الدمُ الوطني، تعالتْ الأندية وازدهر الحبرُ الشعبي المغموس من القضية.
تقاربت الأحياءُ وأُسستْ الأنديةُ المشتركة، وتدفقَ اللاعبون والمشاهدون وامتلأت الملاعب بشعب واحد يصفق للوطن الواحد.
دور السينما ذات المقاعد البسيطة وأفلام الأبيض والأسود تمتلئُ كل ليلة بجموع الأحياء الذين يتداخلون ويضحكون ويتكلمون معاً.
من كان يفرق بين حي رأس رمان والعوضية؟
من كان يفرق بين المنامة والحرية؟
الباصاتُ الخشبيةُ تأخذُ الركابَ من كل زقاق وحي، من قلب جدحفص تذهب بهم إلى قرى المحرق، والأسواقُ التي تنامت في أيام الأربعاء والخميس حصلتْ على باعة ومشترين من كل مكان وضاعت هويات الأحياء والأزقة وصعدت هوية الأرض.
كَثرت الأعراسُ بين الأحياء والقرى، تمازج الدمُ، الأسوارُ المذهبية تنفتحُ فيها كواتٌ ونوافذ لكنها لم تسقط.
لأول مرة ارتفع شعارٌ صارخ في الأسواق والشوارع:(عاش الشعب!).
رجلٌ يصعد مبنى المحكمة بين العيون ويكتب(يسقط الاستعمار!).
الأجسادُ تتقدم في دروب الحرية، يظهر علم، وينتشر، وتاج الإمبراطورية يسقط.
هو زمن التوحيد، والشاحنة الطويلة(سالم الخطر) تنقل العمال من الأحياء والقرى وتوحدهم في مصنع للدخان والنور والزيت.
كانت ثمة اختلافات كثيرة وصراعات وتباينات لكن داخل الوحدة المتنامية في وعي ديمقراطي علماني، أبعد المذاهبَ عن السياسة، وركز في حل المشكلات الكبيرة في الواقع.
وجاء زمنٌ حدث فيه التفكك، وانعزلتْ أقسامٌ إجتماعية عن بعضها، وزادت وتضخمت واغتنتْ الفئاتُ الوسطى والكبيرة، لكن في عالم الخاص: الطب الخاص، التعليم الخاص، الإسكان الخاص، فيما كان العام يعيش في الضيق وشد الأحزمة على البطون.
عادت الطوائفُ إلى قواقعها، إن أزمةَ التغيير في العالم العربي الإسلامي لم تترافق مع توحيد وصعود معيشي مشترك ومع وعي حديث.
الجمهور الفقير الأمي المحدود الثقافة ظل هو جوهر الأزمة، وجاءتهُ أشكالُ وعي متخلفة أبعدته عن مشكلات حياته وتغييرها بشكل حقيقي.
كيف لقوى في الخمسينيات أو حتى الأربعينيات أن تكون توحيدية وطنية مضحية؟ لكونها أبقت على بذور التوحيد الصغيرة الفكرية التي تجسدت في الأندية – التيارات التي استخدمت شعارات النهضة والعروبة والأهلي المدنية وركزت في العام وليس في الخاص فقط.
سيظهر التوحيديون التنويريون الجامعون للشعب من كل الفئات، سيخرجون وهم يستعيدون تراثَ آبائهم، سيمد الأغنياءُ أيديهم للفقراء في نضالٍ مشترك ينتشلونهم من البطالة والفقر، سيتقارب أصحابُ المصانع والعمال في توحدٍ بحريني يختلف ويتقوى، ستركز القوى فيما هو ديمقراطي مشترك، ستعزز الوطن في اختلافه عن بقية الدول، وفي مشاركته لها في تطورها الديمقراطي.
أخبار الخليج 17 يونيو 2011