كم مرة على جلالة الملك ان يقول مثل هذا الكلام بشكل واضح وصريح لا لبس فيه وبإشارات واضحة ورسائل أوضح حتى يفهم ويقتنع هؤلاء المتهورون عشاق الفتنة ويتوقفون عن محاولة المضي بنا إلى تيه لا يظهر عليه أفق يجعلنا في مهب الريح.. وأي ريح..
وهل يفتح هذا الذي قاله عاهل البلاد قلوب وعقول هؤلاء المتجاهلين والجاهلين – لم نعد نعرف – الذين لا تهمهم كميات الجروح الغائرة في الجسد البحريني ولا المشهد المفرط في الخلل إلى حد العبث في فضاءاتنا الوطنية.
وهل يشجع هذا الذي قاله جلالة الملك أولئك الذين عليهم أن يراجعوا أنفسهم ويصوّبوا مواقفهم وان يكفوا عن المراوغة والتعويق، ومنهم أصحاب الأهواء السائبة وأولئك الذين جاءت بهم الصدفة، ومدعو تمثيل الطوائف وأصحاب الضمير المثقوب والغارقون بهواجس الكسب والمزايدة والشعارات من السياسيين والانتهازيين وهواة إطفاء الأنوار في الأفراح الذين كان ولازال جل همهم ان نمّول طموحاتهم الشخصية عبر الاصطفافات في أطر مذهبية وطائفية وفئوية وانكفائية واستعدائية وضيّعوا بذلك الممكن في السعي لطلب المستحيل، هل يشجعهم ما قاله الملك في ان يتقوا الله في الوطن والشعب وان يمتلكوا الشجاعة بالاحتكام الى المنطق وصوت العقل.
أسئلة كثيرة، وهناك الكثير غيرها، ولكن لا بأس بتجاوزها الآن على الأقل، لنعود إلى الأعماق، إلى معاني الكلمات، إلى الكلام الجدي الذي نراه يفرض على الذين ينسبون الى الوطن من أي ملة، وأيا كانت رؤاهم واختلافاتهم وخلافاتهم ان يفهموه، وان يستوعبوه، وان يدركوا مضامينه، لعلهم -وهذا ما نرجوه- يقتنعون أخيرا بان البلد لم يعد يحتمل المزيد من المنغصات والأخطاء والأخطار والنبش في المسائل التي تصب الزيت على النار.
الكلام الجدي الذي نعنيه قاله عاهل البلاد حفظه الله في حديثه الى الصحفيين والإعلاميين، وقبل ذلك خلال لقاءه بشيوخ الدين وأعضاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وأخيرا ما قاله في لقائه بممثلي عائلات المنامة، فهو في كل تلك اللقاءات يفصح بوضوح عن الموقف الحازم والقاطع من موضوع الحوار الوطني ويراه بانه موقف لا مساومة عليه ولا مجال للاجتهاد فيه، ويمضي الى أبعد من ذلك بتحديد موعد لانطلاقة الحوار، ونحسب بان ذلك كاف لكي يتدفق الدم في عروق المسكونين برغبة حقيقية إلى الحوار، وأولئك اللاهثين لاستقبال أي مبادرة تضع حدا للمناخات الراهنة، وتوقف جنون الطائفية ومجانينها، حتى تستنهض كل الأطراف والقوى الوطنية في سبيل عودة حبة العقد والعروة الوثقى، ولذلك جاءت دعوة عاهل البلاد في محلها خلال لقائه بالصحفيين، وهو لم يكتفِ بالدعوة الى الحوار، بل سمعناه في كلمات لا تخلو من دلالة يدعوا الى رأب الصدع الاجتماعي، والى ترشيد الرأي العام، والى استعادة الثقة بين الجميع، والى الدفع نحو خلق رأي عام وطني جامع، والى المحافظة على الوحدة الوطنية، كل ذلك كلام سمعناه مقرونا بتأكيد على عدم الحيدة عن المشروع الإصلاحي وعدم التوقف عندما مر بنا من أحداث إلا من اجل استخلاص الدروس والعبر.
كل ذلك الكلام وأكثر موجه الى الجميع وشكرنا عميق للعاهل، وبودنا ان يستوعب ويتجاوب الكل مع هذا الكلام الذي نحسب بأنه لابد منه لإطلاق ديناميكية التوجه الملح نحو الحوار الذي من خلاله علينا ان نتجاوز ما حدث من تداعيات وامتدادات واستنفارات وانشطارات وكل ما ينبت الزرع الشائك بشكل يجافي الحكمة وبعد النظر.
المهم .. ماذا بعد..؟!
انه دائماً السؤال المحير والمعقد الذي يدق الرؤوس، والذي لا نجد إجابة له سوى ذلك الكلام الذي نراه بعد كل ما مررنا به يرسم طريقا لاستعادة عافيتنا على كل الصعد.. إذن الحوار الوطني هو احتكام إلى المنطق وصوت العقل، فهو يفتح نوافذ الأمل أمام الجميع، المهم أن نبدأ البداية الصحيحة لبلوغ الأهداف والمقاصد المرجوة، حوار سياسي صادق وشفاف لا يسوّق قسرا لعله بذلك يكون بعيدا عن تسجيل المواقف والمزايدات والمراوغات او طرح المطالب التي تولد ضدها مطالب وكأن الواحد منا مطلوب منه ان يكون مع الجميع ضد الجميع وان يضيع الفرصة تلو الفرصة، وإنما المطلوب حوار يحقق الآمال المشروعة لكل شعب البحرين بكل مكوناته في التقدم والتطور والإصلاح المرتكز على توافق وطني حقيقي في شأن كل ما ينهض بالوطن، مقرونا برغبة حقيقية في استخلاص الدروس والعبر لما مررنا به.
علينا جميعا.. ولمصلحتنا جميعا ان نقتنع بان الحوار بات ضرورة حتمية، وخيار استراتيجي.. والجدية مطلوبة، وكذلك حسن النوايا كما الإصرار مطلوب بان يكون الحوار حوارا، هذا هو عين العقل، ومن الحكمة ان نسلم بهذه الحقيقة حتى لا نبقى نعيش في مآزق وتمزقات من نوع ما عشنا ولازلنا نعيش فيه.
لا بديل عن الحوار إذن، مهما كان الرأي في شروطه وظروفه وأطرافه، ولا أظن إن أي طرف يجد نفسه معنيا في حاجة الى مواطن بحريني يقول له كما نحن في حاجة الى الحوار.. فلنتهيأ للحوار، وقبل ذلك علينا ان نؤمن بقيمة الحوار، وانه ليس في المقدور اختطافه من قبل جمعية، او جماعة، او تيار، او مدعى تمثيل الطوائف، وما قاله عاهل البلاد في شأن الحوار.. لا نريده فقط مجرد فرصة للحوار.. بل نتمنى أيضا ان يكون فرصة لتطهير النفوس.. فرصة للشفاء من الجنون.. جنون الطائفية ومجانينها.