إن التوافق بين الصيغ الشمولية الشرقية العربية في بلاد المسلمين يتسم بالغرابة، والعجائبية السياسية وبالتهريج السياسي وبالدموية وبالتقلبات الحادة وخلط الأوراق الثورية بالرجعية.
على خرائطِ الشرقِ المائعةِ اجتماعياً، التي لم تتبلورْ طبقياً، ولم تتأسسْ فكرياً منهجياً، يظهر الحواة والانتهازيون. لم يكن للدكتاتور الذي يربضُ فوق الدبابة أن يبقى على كرسي السلطة الأثير إلا بعد أن يعلن تبنيه للاشتراكية ويخدعُ قطاعاً عريضاً، وتتهافتْ قطاعاتُ الشرائحِ الصغيرة لالتقاط الحَب المسموم والمناصب والامتيازات.
ويمكن لسكرتير الحزب الدكتاتور الذي شكّلَ تنظيماً صغيراً قوياً متصلباً أن يحافظ على الزعامة بخرقهِ الاشتراكية- الديمقراطية، وقوانين الفكر التقدمي، وخرقه قوانين التطور الاجتماعي فيعلنُ دكتاتورية اشتراكية، وسيتضخمُ الحزبُ الصغير بالمنتفعين ويصبح بالملايين.
ويقفز رجل الدين الصغير المتواضع في فهم الشريعة والمذهب ويخرق قوانينهما، وقوانين التطور الاجتماعي السياسي في بلده ويعلن دكتاتورية دينية تشقُ صفوفَ الشعب وتشقُ صفوفَ المسلمين فتمشي سفينةُ المسلمين والأمواج الصاخبة تخترقُ ألواحَها وعظامَ بشرها. والأموالُ والكراسي تحولُ المغامرةَ إلى سلطة، والسلطة تريد أن تكون امبراطورية حتى لو شقت عباب الدم.
ويقوم ابنُ الفلاح بإعلان حرب تلغي التراث الديمقراطي البسيط لبلده ثم يقودُ التصنيعَ والعلوم.
الماركسية – اللينينية والماوية وولاية الفقيه والبعثية والقومية الشمولية والتنظيم العالمي للاخوان المسلمين، صيغٌ تريدُ أن تكونَ كونيةً، والكونية تعني عدم أخذ التطورات القومية والوطنية بعين الاعتبار، وترفض مسار ان كلَ شعب له خصائص ومستوى معين في تطوره السياسي.
ولهذا امتلأتْ الصحراءُ بالإرهابيين، ويعيدُ بسطاءُ الأمة اليوم الأمةَ إلى المسار الصحيح.
القفزة تقومُ بفرضِ صيغةٍ من الخارج، من المركزِ الذي يتشكلُ عبر البلدِ الكبير الذي تتأسسُ فيه رأسمالية الدولة الدكتاتورية، وبفضل ذلك تتوافر لها أموال، وبسببِ تصاعد النزعة العسكرية البوليسية الملازمة لنظامٍ مثل هذا، تقوم بنشر صيغتها السياسية، التي تغدو وحيدة، معبرةً في تصورها عن العلم، مثلما يرى الولي الفقيه أن دكتاتوريته ملازمة للإسلام، ولا يقول إن سلطته الشمولية وطبقته صاحبة الامتيازات التي تسرق أموال الشعب هي التي تقرر ذلك، مثلما يصدر الإرهابي صيغته الدموية من الكهوف.
تؤدي الصيغ الجاهزة النازلة فوق رؤوس الملايين بكسر سبل التطور الديمقراطي الخاصة بكلِ شعب، أي بسيره نحو سماتها الأساسية وهي العلمانية والتبادلية والتعددية والعقلانية، هذه السمات التي تحتاج إلى زمن طويل للتكون وتتجذر في الترب المحلية لكل بلد.
هي لا تظهر إلا بصعوباتٍ جمة في مواجهاتِ الدول الشمولية والجماعات الدينية المغلقة والأوضاع السيئة للطبقات العاملة والاحتباسات المالية الخاصة.
أي أن البلاطَ الشعبي يضربُ تكونَ النزعات الليبرالية والديمقراطية التي تشكل نمو رأس المال الاجتماعي الديمقراطي في كل بلد، هذا الرأسمال الذي يتكون من خلال الجدل الاجتماعي، وظهور دولة تتجه نحو الديمقراطية، ويتكون من تنامي الثقافة، وحل معضلات تأخر الريف، وتخلف النساء، والتطوير التدريجي لقوانين الأحوال الشخصية والحريات، مع نمو التصنيع والتحديث.
خرقُ الصيغِ الديمقراطية سهل، وتصعيدُ الصيغِ الدكتاتورية سهل، لأن أرضَ الشرق المائعة اجتماعياً، والضبابية فكرياً، والمليئة بالكسل والخرافات وقهر النساء والفقراء، محبةٌ للدكتاتوريين، ترقصُ فرحاً حين يظهر أحدُهم ويعلن إنقاذها، وإعادة الأموال إليها، ولينقلها للجنة، وهي جنةٌ مليئة بالأنهار وما عليها سوى أن تجلسَ على الأسرة. لكنه لا يعطيها الجنةَ، بل يجعلها تعمل كعبيد، ويلغي صحفَها، ويحلُ برلمانَها، ويشتتْ أحزابَها، ويطفئ ليبراليتها وديمقراطيتها، ويعتقل مفكريها.
لكن أن تعملَ في تحولات ديمقراطية وتشتغلَ بصعوبة وتتحول، وتنزع الكسل، وتطورَ هذه الأدمغة المتوقفةَ عن العمل سنوات طويلة، فسوف تراها تتمرد، وتصرخ حفاظاً على عرض النساء المهدور! وتلعنُ العمل الجديد ومشاقه التحولية في العلوم وتدريس البنات الرياضة والصناعة.
مسار التحولات الديمقراطية صعب ولكنه مثمر ونضال مشترك للقضاء على الفساد وهدر الثروة الوطنية في كل القطاعات، وتطوير الجمهور ثقافياً، ونضالهُ هو ذاته من أجل أن يحرقَ الشحومَ في أجسامه ويبعد المذاهب عن الصراع الاجتماعي، ويدرس الدينَ بعمق جديد.
الصيغ الدكتاتورية صيغ كسولة، تحفيظية، يتحولُ فيها الحزبُ الشيوعي إلى مأتمٍ، ويتحولُ المأتمُ إلى تلقين وتنويم، وتستثار المجموعات الكسولة المُلقنة التي لا تفتحُ كتباً ولا تدرس ولا تتجهز حداثياً، وتحلم بثمار الجنة، وبالكراسي والأسرة والجواري.
أخبار الخليج 8 يونيو 2011