خرج الملايين من الناس في الأشهر الماضية إلى الميادين والشوارع في عدد من الدول العربية مطالبين بالتغيير. وأدت تلك الاعتصامات في تونس ومصر إلى سقوط النظامين. أما في ليبيا فلا يزال الصراع عنيفاً ومحتدماً. وفي بلدان أخرى أزهقت الكثير من الأرواح في المواجهات بين الأنظمة القائمة والمتظاهرين.
ويكمن وراء هذه الأحداث إقصاء اقتصادي حرم الكثيرين من فرص العمل اللائق والعيش الكريم، وإقصاء سياسي صادر الحق في مشاركة واسعة في عمليات صنع القرار التي تشكل مستقبل الأمم. وكان الشباب من الجنسين في الدول العربية أكثر من عانى من الإقصاء. فهم يعانون من ارتفاع معدلات بطالة تبلغ ضعف متوسط معدل البطالة لدى الشباب على مستوى العالم، إضافة إلى الحاجة الملحة للعدالة والكرامة وفي أن يُؤخذ رأيُهم في القرارات التي تمس حياتهم.
التنمية الإنسانية
بدأ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي العام 2002 نشر تقارير التنمية الإنسانية العربية التي ركزت على انعدام الحريات وفقدان الاستيعاب وقلة الفرص المتاحة.
وقد ركزت تلك التقارير على التحديات الرئيسية التي تواجه التنمية الإنسانية في الدول العربية في: قضايا الحكم، وتمكين المرأة، وحقوق الإنسان، وتأمين التعليم والخدمات الأخرى، وتحديات الأمن الإنساني عموماً. وكانت الرسالة الأساسية لتلك التقارير واضحة: الإصلاح ضروري ولا يحتمل التأجيل.
ومع ذلك، وكما أظهرت الأحداث الأخيرة، تأخر الإصلاح واندلعت الانتفاضات التي راح ضحيتها الكثير من الأرواح. إن العوامل التي تسببت في الانتفاضات بشكل عام لا تقتصر على الدول العربية. و لضمان حدوث التغيير السلمي، فإن التطور الاقتصادي والاستيعاب السياسي يُعدان أمرين بالغي الأهمية.
الاستيعاب الاقتصادي
لم تؤد المعدلات العالية من النمو الاقتصادي في كثير من الحالات إلى خفض كبير في معدل الفقر أو خلق فرص عمل كافية ولائقة. ولضمان تحقيق النمو الشامل ينبغي استهداف القطاعات والمناطق التي يعيش ويعمل فيها غالبية الفقراء. واقتصر النمو في البلدان الغنية بالموارد الطبيعية في الغالب على الصناعات الاستخراجية وخلق فرص عمل محدودة جداً وتوفير القليل من العائدات الضريبية للدول النامية، ما حدَّ من قدرتها على رفع مكانتها من حيث التنمية الإنسانية.
هناك حاجة الآن إلى استراتيجيات ذكية لتمكين الدول من الاستفادة على نطاق أوسع من ثرواتها الوطنية، بحيث تنتج عنها فرص عمل، وشركات صغيرة، ومشاريع استثمارية صغيرة ومتوسطة، ونقل للتكنولوجيا، وبنية تحتية، وعائدات ضريبية تساعدها في كل ذلك مؤسسات قوية وقادرة ووجود قيادة ملتزمة بالتنمية الإنسانية.
وارتفعت نسبة البطالة بين الشباب في جميع أنحاء العالم أعقاب الركود العالمي. وكلفة ذلك لا يتحملها الشباب وحدهم فقط، ولكن أيضاً اقتصادات المجتمعات بأكملها. فقد أضرم محمد البوعزيزي البائع التونسي المتجول النار في نفسه في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، فعبّر بشكل قوي ومأساوي عن اليأس والإحباط الذي يشعر به كثير من الشباب الذين لا يستطيعون المضي قدُماً من خلال نظام يشعرون بأنه أوصد أبواب النجاح أمامهم.
إن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يقف على أهبة الاستعداد للمساعدة في تصميم سياسات لتحقيق نجاحات سريعة في معالجة مشكلة البطالة، وخاصة للشباب؛ ففي تونس نقوم حاليا بتصميم برنامج لتدريب الشباب في إحدى الولايات التي تأثر اقتصادها بشدة من جراء الأزمة الليبية، كما نسهم في برنامج تشارك فيه الأمم المتحدة لدعم الشباب في إقامة مشاريع استثمارية. وفي مصر نقوم بتعزيز خلق فرص عمل من خلال تطوير المشاريع الاستثمارية الصغيرة والمتوسطة وتعزيز خطط للقروض الصغيرة. كما سنقوم قريبا بالمساعدة في تصميم برنامج للأشغال العامة لمواجهة التحديات أمام الانتعاش الاقتصادي على المدى القصير.
الاستيعاب السياسي
عندما تميل كفة الميزان الاقتصادي في غير صالح الأغلبية من الناس، وتتضاءل فرص الأفراد في التأثير على القرارات التي تهم بلدانهم، تتهيأ الظروف لحدوث الثورات. وكما رأينا في بعض الدول العربية، ثار الناس ضد القمع والإقصاء والظلم وفقدان الكرامة. والآن وقد نجحت حركات شعبية واسعة في تحقيق تغييرات سياسية، فإن الفرص سانحة لبناء المجتمعات واقتصاداتها، ونظم الحكم أكثر عدلا.
منذ أن أعلنت تونس مرحلتها الانتقالية، بما في ذلك انتخابات الجمعية التأسيسية في شهر يوليو/ تموز، يشارك برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في إرساء الأسس لنظام ديمقراطي فعّال. وبناءً على طلب السلطات الوطنية التونسية، يتم حالياً تقديم الدعم لإنشاء لجنة الانتخابات وتطوير الأحزاب السياسية. كما يجري العمل على صياغة قانون المجتمع المدني الجديد وعلى تطوير استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد. وفي مصر، ينظم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ندوة في القاهرة في شهر يونيو/ حزيران القادم لتبادل الخبرات مع خبراء من مناطق أخرى من العالم مرت بتحولات ديمقراطية. كما نقوم بدعم العملية الرسمية للحوار الوطني متعدد الأطراف والمساعدة في تحديد أمثل الطرق لتشجيع الشباب على المشاركة في العمليات التي تشكل مستقبلهم ومستقبل بلدهم. نقوم أيضاً بحشد الدعم لتطوير العملية الانتخابية، وبنية حقوق الإنسان، وآليات مكافحة الفساد، وبرامج اللامركزية والحكم المحلي. ويمكننا أيضاً تقديم الخبرة في عمليات استرداد الثروات وإصلاح القطاع الأمني.
الخلاصة
إن هذه اللحظة التي تعيشها الدول العربية الآن هي لحظة تاريخية، يبدو فيها التغيير الحقيقي ممكناً. ينبغي التأكيد أن هذا التغيير يجب أن يكون من صنع الشعوب التي تصبو إليه. ويقف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على أهبة الاستعداد لتقديم الدعم لتحقيق تطلعات الشعوب من أجل حياة أفضل.
هيلين كلارك
صحيفة الوسط البحرينية 19 مايو 2011م