قلنا إننا بعد عقود من التحولات والصراعات اقتربنا من النضج، وأسست لنا التجربة السياسية الأخيرة قاعدة فكرية قوية، نفرز فيها ما هو الوطني وما هو الأجنبي، ما نبني عليه وننقده ونعالجه، وما هو خارج تجربتنا الوطنية.
إننا تجاوزنا ما هو غير وطني، ما هو امتدادات ايديولوجية لمشروعات الدول الأخرى والقوى الأخرى، وإننا على الرغم من خلافنا اقتربنا من الصراع الخلاق، الصراع الذي يقوي اللحمة، والصراع الذي يكشف أخطاءنا ويطور نسيجنا.
توقعنا أو توهمنا ان تجربتنا التاريخية قد جعلتنا بمنأى عن أن يخطف عقولنا السياسية أحد، خاصة بعد أن انهارت إمبراطوريات إيديولوجية.
توقعنا أن القوى الجديدة قد استوعبت هذا الدرس وأن الوطني النضالي غير ممزوج ومتداخل بأجندة دول ومعارك خارجية لا تخصنا، خاصة ان ما تحقق يمهد لأشياء أكبر وأن الذين يريدون التغيير حققوا مواقع مهمة في المجلس الوطني والوزارات والبلديات والنقابات والحياة التعليمية والفكرية، كرسوا أسماء، شكلوا تنظيمات ومواقع مع الجمهور، نشروا شبكة من الصلات.
ولكن فجأة يذهب هذا كله في الدخان السياسي.
كل ما كُرس لأجلِ معارضةٍ برلمانية وكتل وأعمال ميدانية طويلة يزول بقصاصة من ورق.
كل ما أردناه بأن هذه المعارضة المذهبية السياسية سوف تتطور وأن نرى علاقات متداخلة وطنية بين الكتل تؤسسُ نضالا بحرينيا صميما من داخل قنوات النظام، فهل كل ما بني هو مجرد سراب؟
أو أن كل ما تخيلناه هو أوهام تعشش في رؤوسنا وليس لها أي انعكاس حقيقي في الخارج؟
لا نفترض سوء النيات في الكثيرين من النواب والسياسيين ولكن كنا نريد فقط درجةً من الحصافة، نريد شعرةً واحدة فقط من الدهاء السياسي، لمسة صغيرة من بُعد النظر.
فلنفترض أن ثمة تخلفاً في الحياة السياسية الاجتماعية الاقتصادية ولكن كيف تحرق كل أوراقك وتقدم انتحارك السياسي وتعلن استقلاليتك وتحرق كل السفن التي تسمح بعودتك إلى شاطئ بلدك؟
أفكر في هؤلاء كثيراً، هؤلاء الذين أُعطيت لهم فرصٌ لم تُعط لكل أجيالنا المناضلة السابقة: مناصب كبيرة وكراسي قوية وكتلة ومنابر وجمهور تحت يدهم يصرفونه ويدعونه كيفما شاءوا.
ثم لا تمتلك الجماعة المؤتمنة ذرة من الحصافة، تفرط في هذه المقاعد الثمينة في المجلس، كأنها مقاعد في قهوة شعبية، أو سيرك، وكأن هذه المقاعد ليست ثمرة مهمة من نضال أناس يريدون تغيير معاشهم وتبديل حاراتهم الفقيرة وتحسين حياتهم.
هذا يعطينا طبيعة هؤلاء الاخوة بأنهم شديدو العاطفة مهتاجون، لا يمتلكون هدوءًا سياسيا وبعدَ نظر، وأنهم لم يجعلوا أهدافهم متعددة، تتدرج بين البعيد والقريب، ووسائلهم متنوعة، وكلها تجري في فن الممكن، وفي فن السياسة الهادئ الديمقراطي وعدم إثارة الأعصاب إلى درجة الحرق والهستيريا.
نعم، كان يمكن أن ترفع صوتك، وتعرف إلى أي مدى، وأن تطلب إلى حد معين، وأنت في كل هذا تستهدف التغيير الممكن، وبالتالي فإن معركة السياسة وأهدافها تكون معك، وتخرج من آثارها ونتائجها وأنت حائز شيئا مهما وثمينا.
كان النضالُ الوطني السابق خاصة في تيار اليسار الوطني العقلاني يرفعُ لافتة مهمة هي (أن تناضل بأقل الخسائر الممكنة) من دون أن يدمرَ الأشياءَ العامة أو يُربك حتى المرور، لكن الجيل الجديد لا يعرف الثقافة التاريخية لشعب البحرين ونضاله، ولا يعرف التراكم وجعل المكاسب تعلو بصبر وحرص فها هو يبدأ من الصفر.
بعد ربع قرن من الصراخ والنار وحشود السجون ينتهي في ذات النقطة التي بدأ منها.
نعم، لديه كمية من التنظيمات والأشياء والمكاتب والأنصار ولكن كم هي المكاسب الآن؟
ليست المسألة مسألة التدخلات الخارجية بدرجة أساسية، بل المسألة هي مستوى هذه القيادات والعقليات المتشنجة غير المراكمة لنضال صبور، وأي ثقافة راسخة في هذه الأرض، هي أشبهُ بالفقاقيع نقولها بأسف وأسى شديدين، ويعصرنا الألم، ونشعر بكم خيبتنا الثقيلة.
وهي بفراغها هذا قابلة لأي تأثير خاصة حين يكون في مسار تشنجها.
قد يقول قائلٌ من هؤلاء إنني اشتغلت بهذا الشكل (الحكيم) ولكن غيري هو الذي خرب، وحاولتُ أن أمنعه وأتصدى له لكن كانت حركاته أسرع.
قد يجوز هذا، ولكن لماذا حرقتَ قواربكَ كلها خاصة في المؤسسة التي ناضلت من أجلها كثيراً؟ لماذا لم تصارعه سياسيا وتقف في وجهه؟
لماذا لم تترك خط رجعة عند المؤسسات الرسمية، وقمت بأعمال حوار ولقاء تظهر جوانب أخرى غير التصعيد؟
هل نقول إنها لحظة خطرة تاريخية نحن فيها نجثم في أطلال سياسية؟ وفي خرائب روحية نتظاهر بتجميلها بزينة من ورق؟
أطلال سياسية حقيقية، وناشئة ليس فقط من الخسائر البشرية، بل أيضاً من اننا وجدنا مسرحا سياسيا فارغا، وجدنا أطلالا.
فالجماعاتُ المذهبية السياسية خطفتْ البلدَ في مسارات مروعة.
وكنا ننتظرُ أن تقوم القوى الأخرى غير المذهبية بطرح اتجاه آخر وتنفض عن هذا المولد.
والمروع اننا وجدنا ان (الكل) دخل في الصراع المذهبي السياسي.
فأين ما راكمناه من فكر سياسي وثقافة وطنية؟
خسارتُنا كبيرةٌ عبر هذا، لأننا توقعنا اننا بنينا شيئا مهما، وأن ثمة قوى حتى صغيرة تمتلكُ تلك العقلانية الدرة التي كرسها نضالنا عبر السنين، فتعرف الخيطَ الأبيضَ من الأسود.
خسارتنا فادحة فكيف سيتكون هذا الطللُ المدمرُ مرةً أخرى؟
وهل سيتم حل مشكلاتِ طائفيين بجلبِ طائفيين آخرين؟
وهل في كل بضع سنوات يتم تعريضنا لخسائر بشرية وروحية كهذه مع حقول كبيرة من الرماد؟
أخبار الخليج 9 ابريل 2011