في الحوار الذي أجاب فيه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» عن أسئلة الشبان الذين شاركوا في انتفاضة يناير المصرية، شبه حالة الحيرة التي يعانونها، بعد أن حققوا هدف إسقاط النظام السابق، بالذين قادوا صاروخا أوصلهم إلي القمر، فلما سئلوا عما يتمنونه طلبوا كيلو كباب.. وهو تشبيه يؤكد حقيقة أن المصريين علي مشارف الثورة، كانوا قد اتفقوا على ما لا يريدونه، وأجمعوا على أن النظام السابق لم يعد صالحا للبقاء، لكنهم لم يكونوا قد توافقوا بعد، على ما يريدونه، أو على الملامح العامة للنظام الذي يحل محله.
ولولا ذلك لما شغل المصريون جميعا وفي طليعتهم الثوار، هذا الانشغال المبالغ فيه، بالرغبة العارمة في الثأر من الماضي، وتصفية كل رموزه، وبهواجس الثورة المضادة التي تسعى لكي تعيده، أكثر مما يشغلون أنفسهم بالحوار حول المستقبل .. وإذا كان صحيحا أننا لا نستطيع أن نزرع الأرض بنبت جديد، إلا إذ انشغلنا أولا بتطهيرها من الطوب والحصى والحلفا والصبار، وصرف ما تجمع في بطنها من ماء آسن، لنضمن أن ينمو هذا النبت ويخضر، فمن الصحيح – كذلك – أنه لا يمكن أن يطرح ثمارا مختلفة إلا إذا اشتركنا في انتقاء بذوره وتعهدناها بالرعاية وتأكدنا أنها ليست فاسدة، وأنها لن تثمر شوكا وقتادا واستبدادا يحل محل استبداد. وعلى عكس ما يعتقد البعض فإن الانشغال بالثأر من الماضي ليس وحده الذي يحقق وحدة القوى صاحبة المصلحة في الثورة أو يصلح لكي يكون بديلا عن الوحدة التي يحققها توافق وطني حول ملامح المستقبل، كما أنه على عكس ما يعتقدون، لا يسد الباب أمام التباين في وجهات النظر بين هذه القوى، حول منهج التخلص من آثار هذا الماضي وهو منهج لا يجوز أن يكون مناقضا لرؤى المستقبل! .
هذه قضية ينبغي التوقف أمامها، على ضوء وقائع الأسبوعين الأخيرين اللذين شهدا اعتراضا واسعا بين صفوف الثوار، حول ما وصف بأنه تباطؤ مقصود في اتخاذ اجراءات تطهير الحياة السياسية من آثار الماضي، وبصرف النظر عن أن المطالبة باتخاذ اجراءات حاسمة وسريعة في اتجاه هذا التطهير، تستهدف فقط اشخاصا من المسئولين السابقين، من دون أن تقرن ذلك بالمطالبة بتطهير الأوضاع المؤسسية والقانونية التي أتاحت لهم ممارسة ما ينسب إليهم من فساد مالي وسياسي، فقد تباينت الرؤي بين الذين يطالبون بهذا التطهير، حول أسلوب القيام به، ففي حين أقر بعضهم، المنهج الحالي الذي يقوم على إحالة كل الوقائع التي تتعلق بارتكاب جرائم جنائية ذات طابع سياسي مثل قتل المتظاهرين، أو مالية مثل الاستيلاء على المال العام أو التربح منه، أو إساءة استغلال النفوذ، إلى النائب العام يجري تحقيقاته فيها طبقا للقانون ويحيلها إلى القضاء، وطالبوا فقط بالإسراع في إنهاء هذه التحقيقات وتقديم المتهمين فيها إلى محاكمات عاجلة، رأى آخرون أن التطهير لابد وأن يشمل قضايا الإفساد السياسي، وأن يتم في كل الحالات طبقا للمشروعية الثورية، وأمام قضاء ثوري، حتى لا يستطيع الذين مكنوا للاستبداد والفساد – في ظل النظام السابق- من استغلال ثغرات القانون واجراءات التقاضي، ومهارة فرق الدفاع المدربة، في الإفلات من العقوبة أو البقاء على الساحة السياسية!.
ولابد من التسليم بأن مطالبة النيابة العامة بإنهاء التحقيقات في البلاغات التي تلقتها بشأن وقائع الفساد المالي والإداري، أو التحريض على قتل المتظاهرين أو اقتحام أقسام الشرطة والسجون، ومطالبة القضاء بسرعة البت فيها، وتمكين الطرفين من القيام بذلك في أسرع وقت ممكن، في ضوء الحقيقة التي تقول إن عدد البلاغات في هذا الصدد ، قد تجاوزت 15 ألف بلاغ هو مطلب مشروع ومنطقي.
أما الذي ينبغي التوقف عنده ، والتفكير فيه بروية فهو المطالبة بمحاكمة الفاسدين – ماليا وسياسيا ـ أمام محاكم ثورية وطبقا لقوانين ثورية، وهو اتجاه سبق لمصر أن عرفته بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952، وحتى رحيل الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» حين صدرت «قوانين ثورية» قضى أولها بتشكيل لجان التطهير، وهي لجان إدارية ذات صبغة قضائية، يرأسها قاض وتضم أحد رجال النيابة ، عدداً من كبار الموظفين، أنيط بها تلقي الشكاوى والبلاغات ضد موظفي الحكومة، الذين مارسوا ـ فيما كان يوصف أيامها بالعهد البائد ـ الفساد أو استغلوا نفوذهم أو تربحوا من وظائفهم، والتحقيق فيها وإصدار قرار بفصل الموظف عن غير الطريق التأديبي، وقضي الثاني بتشكيل «محكمة الغدر» برئاسة مستشار من محكمة النقض ومستشارين من محكمة الاستئناف وأربعة من ضباط القوات المسلحة، لمحاكمة وزراء العهد البائد ونوابه وكل شخص كان مكلفا بخدمة عامة، شارك في إفساد الحياة السياسية، أو استغل نفوذه للحصول على فائدة لنفسه أو توسط لحصول أحد يمت له بصلة على وظيفة عامة، ليعاقب بالعزل عن الوظيفة أو الحرمان من الحقوق السياسية لمدة لا تقل عن 5 سنوات أو الحرمان من المعاش، وأجاز القانون الحكم بإسقاط الجنسية عن الغادر، ومصادرة الأموال التي أفادها من غدره.
وتتالت بعد ذلك أشكال وألوان من المحاكم الثورية كان من بينها «محكمة الثورة» التي حاكمت قادة أحزاب ما قبل الثورة، «والمجالس العسكرية العليا»، التي حاكمت الشيوعيين وعمال كفر الدوار و«محكمة الشعب» التي حاكمت «الإخوان المسلمين» وتتالت القوانين الثورية التي أعطت رئيس الجمهورية سلطة فصل الموظفين عن غير الطريق التأديبي، وفرضت العزل السياسي على كل أعداء الثورة، وشمل ذلك الوفديين والإخوان المسلمين والشيوعيين، وأباحت لرئيس الجمهورية الحق ـ في غير حالة الطوارئ ـ اعتقال كل من سبق التحقيق معه أو محاكمته أو اتهامه أمام محاكم الغدر والثورة والشعب وأمن الدولة، أو سبق اعتقاله، وأجازت له أن يقدم أي قضية، إلي المحاكم العسكرية، حتى لو لم يكن للتهمة صلة بالقوات المسلحة، وحتى لو كان المتهمون فيها جميعًا من المدنيين.
وبصرف النظر عما إذا كان هناك ما يبرر صدور القوانين ـ أو تشكيل المحاكم أو اتخاذ الإجراءات ـ الاستثنائية، مما له صلة بأحوال الأمة والعالم آنذاك، فذلك فصل من تاريخ الوطن، ينبغي ألا يفكر ـ أو يحرض ـ أحد تحت أي اعتبار على العودة إليه، مهما كان الدافع إليه نبيلا، وهو محاسبة الذين ارتكبوا جرائم في حق الشعب، والاقتصاص منهم، وحماية الثورة من قوى الثورة المضادة التي تتآمر بها.
أما السبب فلأن هذه القوانين الاستثنائية صدرت بدعوى حماية الثورة من أعداء الشعب، ومع الزمن اتسعت قائمة هؤلاء الأعداء، لتشمل كل من ينتقد النظام، وكل من يجتهد في شئون الوطن، وانطوت على مظالم لا حصر لها، شملت عشرات ـ وربما مئات الألوف. من المصريين، وأفسدت أجهزة الأمن، حين منحتها سلطة الخروج على القانون، وأتاحت لها الفرصة، للتدرب على ممارسة التعذيب، وأكل لحوم المواطنين، حتى استعصى ـ مع الزمن ـ إصلاحها.
أما المهم، فهو أن صدور أحكام بمصادرة الأموال من محاكم استثنائية، أو طبقا لقانون استثنائي سوف يفقدنا الحق القانوني في استرداد الأموال التي هربها الفاسدون من أركان النظام السابق إلى الخارج، طبقا للقوانين الدولية! أما الأهم فهو أن الثورة ينبغي أن تتسق مع نفسها، فقد قامت لتهدم الاستبداد، ولا يجوز لها تحت أي اعتبار أن تمهد الأرض لاستبداد جديد يبدأ عادة بالمحاكم والقوانين والإجراءات الاستثنائية. باختصار ووضوح: نريد شرعية ديمقراطية.. لا شرعية ثورية!
الكاتب : صلاح عيسى
كاتب مصري
الأيام 8 أبريل 2011