سيمفونية الثورات الديمقراطية، ُتسمَع ألحان تحررها الاجتماعي الوطني في أرجاء الأمة. وأصداء موسيقاها، تملأ الساحات والشوارع العربية من مشرقها الى مغربها. وهتاف بصوت واحد “الشعب يريد إسقاط النظام”. الشباب والعمال والفقراء هم وقود الثورة. خرجوا، وتجمهروا دون معرفة شخصية مسبقة، ودون صلات قربى في الدم. وحده ظلم واستبداد زمرة الطغاة وعائلاتهم وأزلامهم أوجدت المعرفة المسبقة، وربطت صلات القرابة. ووحدها مصادرة الحرية، الكرامة، الديمقراطية والعدالة.. أطلقت ثورة الغضب من رحم أوطان هؤلاء الثوار حيث ولدوا، وضحّوا في سبيل أطيانها وتحريرها وإستقلالها ومجدها. زرعوا كل آمالهم وأحلامهم في أراضيهم ومعاملهم ومؤسساتهم من أجل حياة سعيدة. وانتظروا
عسى زرعهم ينبت قمحاً وخبزاً وتنمية وحرية وديمقراطية.. دفعوا متوجبات كل ما يلزم للنواطير ، من ضرائب القهر والمنع والقمع والتسلط والفساد.. وكل مستلزمات عولمة ضرائب السوق المباشرة وغير المباشرة مع القيمة المضافة، وفساد الرشوة والسمسرة والنهب والغربة والتقشف على ذواتهم وأطفالهم وعائلاتهم.. وقبعوا يقنعون أولادهم بموسم خير قادم لا محالة، وغلة وافرة من رزق تعبهم وعرقهم وكدحهم لحين موعد الحصاد. وصبروا، على فقرهم الى أجل مسمى، سنة.. عشرة عشرين أربعين… حتى جاء أجَلِهم، وهاجر أولادهم، وتيتم أحفادهم. وما برحت النواطير سرمدية أبدية، لا تكبر، ولا تتبدل ،ولا تشبع، ولا ترحم. ايقنوا بعد عقود من السعي والتظاهر والكفاح والنضال والاعتقال والموت البطئ، انه حان الوقت، للإنتفاضة على نواطير التبعية والارتهان لمشروع أميركي لا يخدمهم سوى بتكديس أموال شعبهم من تعب فقرائهم. كأنهم مرتزقة، مارقون، سارقون، فاسدون ومفسدون.. قدموا كأمواج عاتية من كل الزواريب والحارات والقرى والمدن والمدارس والجامعات والمناجم والمصانع، جرجروا أجسادهم الباقية، الى الساحات بوجوه وأسماء مختلفة، رصوا الصفوف، وقرروا إطلاق مدافع حناجرهم ككورس هادر، وصنعوا أحدث سيمفونية ثورية شعبية عربية في التاريخ العربي الحديث.
هو التاريخ، الذي علمنا أن الجماهير قادرة على صناعة المفاجآت والمعجزات النضالية. وأن الإنسان منذ القدم يصارع لتأمين حاجياته، ولخلق مفاهيم وعقود إجتماعية وسياسية توفر له حريته وحمايته واستقراره وأمنه وكرامة حياته. يطورها، في كل مرحلة من مراحل تبدل الصراع الطبقي، وبما تتوافق مع خصوصية كل مرحلة من الطوطم الاول لحد العولمة النيوليبرالية الراهنة.
هو الفكر أيضاً، داخل هذا التاريخ الصراعي، أقله في مرحلته المتوفرة المكتوبة. الذي لم يبخل علينا، نحن الفقراء- الشعب، في إمتلاك المعرفة والتحليل لصراع الطبقات، وفي شرح مفاهيم تطور لمطلق نظام سياسي- اجتماعي، وفي كيفية منطلقاته وتكريس أسسه، وتعميم ثقافته، وتأبيد ما تعتقده طبقته بأنه النموذج الوحيد والأفضل لوجود البشرية. وبأن السياسات والأدوات والمؤسسات القائمة في خدمته، تشكل الفرادة في نموذجها، وبأن التاريخ يتنهى عندها. وهو ما يتفتق عليه منظرو إمبريالية العصر، وما أتحفنا فيه نماذج طغاة تونس ومصر، وثالثهم طاغية ليبيا لحد اللحظة، والباقي سنشهده لا محالة.
هو الشعب دائماً، ينتفض، مرات يسبق أحزابه بأشواط ثورية، كما هي حال ثورات شعبنا التاريخية الراهنة. ومرات يتم التلازم بين الطرفين من خلال طليعة سياسية. لكنه، ومن أجل ان تنتصر الثورات الشعبية وفي جميع الحالات، لا بد من إنتزاع السيطرة السياسية من أجهزة الدولة المنتفض عليها، وهي المتمثلة بالبرجوازية التبعية- في وطننا العربي. ولا بد من الاستيلاء على وسائل الانتاج وتنظيمها، وبناء سلطة ديمقراطية- تقدمية جديدة.
وبدون هذه الخطوات المكملة والأساسية، فإن كل مآثر الثورات وانتصاراتها لن تحول دون سعي الأنظمة وأدواتها المفترض انها بائدة من محاولات إفشال ما تحقق، وإعادة إنتاج ذاتها- طبقياً، بمكياج جديد. وأهم أدوات شغلها يكمن في محاولة تجزئة النضال الطبقي بالمعنى العميق والتاريخي للمفهوم. وتجزئة الوعي داخل صفوف الطبقة العاملة. أي، محاولة تسويف الوقت، واللعب على إبقاء ذات شروط نمط الانتاج الرأسمالي، كمحاولة للإبقاء على سيطرتها من خلال استخدام عوامل الإنقسام العمالية والحرفية والقطاعية، واستدعاء دفاتر القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية والاثنية والقومية.. لصد الوعي التوحيدي لملايين الجماهير الشعبية، ومصالح الطبقة العاملة والكادحة والفقيرة المتطلعة للتحرر السياسي والاجتماعي والتغيير الديمقراطي. وإشغالهم بخصوصيات المهنة، أو العمل، أو الدين، أو القبيلة، أوالقومية.
هي أزمة النظام الراسمالي بالأساس، وأزمة كل أدواته وأنظمته ومؤسساته. وهي عندنا تمثلت أولاً في أزمة قيادة حركة التحرر الوطني، ثم ثانياً في أزمة الأنظمة التبعية، وسياساتها، ودهاليز حكمها. وهي ثالثاً، أزمة تشظي اليسار المواجه، وتدني سقف مطالبه، ورهان أكثريته على طلب التزاوج والمصاهرة مع البرجوازيات الحاكمة طمعاً بمشاركة أو حصة، متناسياً وكالة تمثيله للطبقة العاملة والمسحوقة النقيض لطبقة الطغاة المتسيّدة على عروشها منذ عقود.
اليوم، تجتمع كل عوامل اللحظة الثورية، في مجرى التقاء التناقضات كافة التي لا تجتمع إلا إستثنائيا، سواء أكانت العوامل موضوعية مثل أزمة مستفحلة في علاقات الإنتاج الرأسمالية. أو أكانت العوامل ذاتية : إنعدام وحدة الطبقات المسيطرة وشلليتها؛ ضعف أجهزة قمعها، غضب شعبي متنامي للطبقة الكادحة المسحوقة، شعور بالقوة وكسر الخوف و بالقدرة على إحداث ثورة شعبية مباشرة تحت شعارات إسقاط النظام، وليس عن طريق المطالبة بالاصلاحات التدريجية..الخ .
من هنا، تكتسب ثورات شعبنا المنتفض اليوم أهميتها التاريخية. ومن ذات الأهمية يجب أن لا تنام، ولا تستكين، ولا تتراجع حتى إستكمال أهدافها في التحرر والتغيير الديمقراطي، وعن وعيها الكامل في تفكيك واسقاط “النظام” في شكله وبنيته وهرميته، قبل أن تلجأ أجهزته ورموزه وبقايا أطرافه الشروع بإعداد سيرورة مضادة تكون بداياتها التنازلات الشكلية للثورة، ونهاياتها الرهان على تعب وتفريق الناس وإعادة إنتاج ذات النظام السابق.
كانت الثورة ضرورية، ولغاية إنسانية الإنسان، لهذا فإن مكاسبها المحققة أمانة عند من يهمه الأمر، وتحديداً القوى والأحزاب والمرجعيات التي قامت وناضلت لأجل ذلك، وليس لأجلها، لأنها وسيلة لتحقيق أهداف تطور المجتمع، وها هو المجتمع تقدم على عقلياتها التقليدية، وعلى أساليبها الكلاسيكية. وفي الحقيقة فإن الجماهير خائفة منها بسبب إنعدام الثقة فيها. وأولى موجبات هذه الأحزاب، أن تعيد ثقتها بنفسها أولاً وأن تعيد شرف هذه الثقة الشعبية باثبات جدارة نضالها في الميدان لغير غاية شخصية أو حزبية بقدر نضالها من أجلها، من أجل أولادها، ومستقبل بلادها.
لهذا نحن يساريون.
إنها لحظة الثورة، والعمل. انه زمن التغيير الذي طال انتظاره. فهل نقبل أن نكون من الجماهير والى الجماهير نعود.
من هنا نتعلم من سيمفونية الشعب!…
الكاتب: سمير دياب
مجلة النداء
24 مارس 2011