ترتفع في أقطار العالم العربي وبينها لبنان وتيرة الحراك الجماهيري الهادف إلى إحداث التغيير الديمقراطي، وإسقاط او إصلاح الأنظمة السياسة الحاكمة لشعوبها بالقهر والاستبداد والمحكومة من قبل مراكز القرار الرأسمالي العالمي وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
هذا الحراك تختلف طبيعته وتجلياته ربطاً بخصوصية كل بلد على حدا، فإذا كانت مصر وتونس قد توجت الحراك الشعبي بسقوط رأسي نظامي مبارك وبن علي بسهولة نسبية فإن ما يجري في ليبيا من قمع دموي للمدن المتمردة على نظام القذافي الهالك يؤشر الى أن حساب الحقل الليبي لا ينطبق أميركياً وغربياً مع حسابات الشعب الليبي وهذا ما يبدو واضحاً من عدم إشارة إجتماع دول الثماني للحظر الجوي على ليبيا إستجابة لدعوة أميركية للتريث، وهذا ما بدا واضحاً ايضاً برفض وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، إعطاء وعد للرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، ولموفد المعارضة الليبية بإقرار الحظر الجوي. وقد إنسحب هذا الموقف على إجتماعات مجلس الأمن الدولي حيث تريد واشنطن وبعض حلفائها معرفة مدى مشاركة العرب في تنفيذ قرار الحظر، أما الهدف الحقيقي من موقف واشنطن ومعها المانيا وإيطاليا وروسيا، فهو منح القذافي فسحة من الوقت لفرض أمر واقع ميداني يحول دون سقوطه وربما يؤدي الى تقسيم ليبيا بين الشرق والغرب، أو إعطاء واشنطن الحجة لتدخل بري يتيح لها السيطرة على مصادر النفط.
الحال عينه نلحظه في اليمن حيث يخيم الصمت الأميركي والغربي بموازاة عمليات القمع التي يمارسها النظام، كما نلحظ ذلك في البحرين عبر الغطاء الدبلوماسي الذي منحته واشنطن للتدخل العسكري من قبل دول مجلس التعاون الخليجي.
أما لبنان فيبدو واضحاً أن نظامه السياسي القر ـ الوسطي والممتدة جذوره الى نظام الملل والنحل العثماني في القرن الـ 16 يبدو واضحاً أن هذا النظام بإرثه التاريخي الطوائفي لا يزال عصياً على السقوط رغم كونه المسؤول على مدى العقود الماضية عن الأزمات والحروب الأهلية الدورية.
فما هي عوامل القوة لهذا النظام؟ إضافة الى التداخل المحكم بين المجتمع الأهلي والمجتمع السياسي وما يولده هذا التداخل من ولاءات أولية عصبوية تبدو واضحة في الإستقطابات الطائفية لقوى الثامن والرابع عشر من آذار، فإن غياب مفهوم المواطنة وتغليب الولاءات الطائفية سمح للوصايات الخارجية، دولية كانت أو أقليمية، ربطاً بإمتداداتها الطائفية الداخلية، بأن تفلح منذ الإستقلال في العام 1943 في ترسيخ مقولة الفيلسوف اللبناني كمال الحاج بأن “لبنان والطائفية صنوان إذا زال أحدهما زال الآخر” كما أفلحت في إجهاض أية محاولة حقيقية للتغيير عبر إغراق الصراع ذو الطابع السياسي الإجتماعي بأزقة الطائفية والمذهبية وزواريبها مشكلة بذلك صمام أمان للطبقة الحاكمة وآلية تعيد من خلالها هذه الطبقة إنتاج سلطتها وفق توازنات مرتبطة بمدى تغير موازين القوى الإقليمية لصالح هذا الطرف الداخلي أو ذاك. في سياق ما تقدم يمكن مقاربة محاولات الاستغلال التي مارستها بعض الرموز المغرقة في طائفيتها للتظاهرات الشبابية المطالبة لإسقاط النظام الطائفي في محاولة لاستيعابها وجعلها جزءاً من وقود الصراع السياسي الدائر حالياً في لبنان بين عتاولة الرابع عشر والثامن من آذار. لكن هذه المحاولة باءت بالفشل وأكد آلاف الشباب أن مطلب إسقاط النظام الطائفي هو خيار لا تراجع عنه وليس أداة للإستغلال الرخيص.
فما هي آفاق هذا الحراك الشبابي الذي شكل محطة مضيئة في ظلمة الإستقطابات المذهبية والطائفية؟
يبدو واضحاً أن الشروط الموضوعية لتحريك الوعي الجماهيري متوفرة الى حد ما بفعل أزمة النظام المتفاقمة على كافة المستويات وتهديد هذا النظام للكيان اللبناني ولسلمه الأهلي ما يؤكد ضرورة إحداث التغيير للخروج من الحلقة المفرغة. إلا أن أيديولوجية السلطة الحاكمة الرافضة لأي تغيير خارج سقف هيكليتها السياسية تضع أمام عملية التغيير حواجز هائلة على رأسها تفعيل الإنشقاقات العمودية للنسيج الوطني اللبناني مذهبياً وطائفياً، بالإضافة لرفضها حتى الآن الولوج في مهمة تعزيز مفهوم المواطنة لحساب الكيانات الطائفية ذات الدور المؤسساتي المتجاوز للدولة المركزية على المستويات السياسية والإجتماعية والتربوية والإقتصادية… بالإضافة بالطبع للمستوى الأمني المليشياوي، مفعلة في سبيل ذلك الغرائز العصبوية لحماية نفسها بمن يفترض أنهم الفئة ذات المصلحة في التغيير. وهذا ما يفسر تغييب المواد الإصلاحية في وثيقة الطائف وتنفيذ هذه الوثيقة إستنسابياً خدمة لمصالح فئوية.
مما تقدم هل نحن أمام إستحالة في عملية التغيير؟ الجواب على هذا التساؤل يقتضي التأكيد على أن المستحيل هو استمرارية هذا النظام بما يولده من أزمات وحروب أهلية، ومن ولاءات للخارج على حساب الوطن ومصالحه. وبالتالي فإن هذه الإستحالة تؤكد مشروعية شعار إسقاط النظام الطائفي الذي أطلقته قلة من الشباب أخذ يتسع تأثيرها ليطال الألاف وغيرهم الكثير ممن لم يشاركوا بعد، وهم في ضفة البحث عن قيادة تبلور حالة جماهيرية أو خيار ثالث بين الخيارين الطائفيين الآذاريين المدمرين للسلم الأهلي وللسيادة الحقيقية. وهنا يكمن “مربط الخيل” إذ أن على هذه القيادة صياغة مشروع نضالي للخروج من دائرة أطراف السلطة. فإذا كان من المهم التمسك بخيار المقاومة كرافعة للتحرير ولتأكيد هوية لبنان في مواجهة العدو وإمتداداته فمن المهم أيضاً، بل والملح، تجاوز بعض القوى المغرقة في حساباتها الفئوية الداخلية إدراكاً من قوى التغيير أن هذه القوى ليست في وارد المساهمة في عملية التغيير الديمقراطي لأن ذلك يتنافى مع طبيعتها هذه القوى وبنيتها العقائدية ونسيجها الجماهيري الطائفي، وإستبدال ذلك بعمل جماهيري ناشط يكوكب الفئات ذات المصلحة في عمليات التغيير، وما أكثرها، حول شعار التغيير الديمقراطي ليكون الخيار الثالث نقطة الماء التي ستتمكن مع الوقت من تحطيم جدار الفصل الطائفي وتحريك عملية التغيير بغطاء جماهيري وازن.
مجلة النداء العدد 157
حدث ورأي منذر بو عرم
25 مارس 2011