لم يشأ الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى البقاء على الحياد من طبيعة الأحداث السياسية المتسارعة التي مارت وتمور بها الساحة المصرية، على خلفية الثورة الشبابية والشعبية المصرية، حيث تدرج موقفه شيئاً فشيئاً على وقع سرعة وتيرة تطورات الحدث المصري الكبير، وصولاً إلى زيارة ميدان التحرير والالتقاء هناك بشباب الثورة، ثم، ومن بعد ذلك، طرح اسمه وتداوله ضمن مجموعات الحكماء التي اختيرت للتفاوض نيابة عن شباب ميدان التحرير قبل إسدال الستار على المشهد الأخير لنظام الرئيس حسني مبارك .
الآن تتجه مصر لإقامة الجمهورية الثانية (منذ قيام الجيش المصري بإسقاط الملكية في انقلاب عسكري عام 1952)، وهي في سباق مع الزمن لإعادة هيكلة نظامها العام وكامل منظومتها التشريعية وعلى رأسها الدستور، وأجهزتها التنفيذية والتشريعية والقضائية ووسائطها الإعلامية والثقافية .
وهي مقبلة عما قريب على انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة تختلف تماماً عن كافة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي شهدتها مصر في ظل الجمهورية الأولى .
وكما صار معلوماً، ثمة شخصيات أعلنت مسبقاً نيتها الترشح لانتخابات الرئاسة القادمة في مصر، من بينها وأبرزها الدكتور محمد البرادعي المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية ورئيس الجمعية الوطنية للتغيير وعمرو موسى أمين عام الجامعة العربية .
طبعاً من حق عمرو موسى أن يطرح نفسه خياراً مناسباً للمصريين في مرحلة عبورهم الصعبة من نظام سياسي شمولي مغلف إلى نظام ومرحلة سياسية واقتصادية، يراد لها أن تكون مختلفة تماماً، تقطع مع الماضي بكل سلبياته وكوارثه، لقناعة بأنه يتمتع بكفاءة مهنية وجدارة وطنية وقومية تؤهله لأن يقدم نفسه للشعب المصري كمرشح رئاسي لمرحلة مصر ما بعد الحزب الوطني الذي ظل يحكم مصر، بواجهات مختلفة، على مدى نحو ستة عقود .
ولا ننسى أن عمرو موسى ظل يحظى بقدر غير قليل من الاحترام لدى أوساط واسعة من الشعب المصري نتيجة لبعض مواقفه السياسية المعلنة التي عبر عنها في مناسبات عدة والتي حملت بعض المضامين الوطنية والقومية المعبرة عن المصالح العربية الوطنية والقومية .
ومع ذلك، فإنه إذا كان لنا أن نبدي رأينا في النية التي عبر عنها عمرو موسى للترشح للانتخابات الرئاسية المصرية القادمة، من دون أن نقصد بطيعة الحال الإفتاء في ما خص خياراته الشخصية التي هو بالتأكيد سيدها وله مطلق وكامل الحرية في تحديدها وتقريرها، نقول إذا كان لنا أن نبدي رأينا المتواضع في ذلك، فلعلنا نرى أن استمرار موسى في منصبه أميناً عاماً للجامعة العربية، في هذه الظروف العصيبة والأحداث الجسيمة التي تمور بها منطقتنا العربية، ربما كان خياراً موفقاً له ولنا جميعاً كعرب نقف اليوم أمام مفترق طرق دقيق وخطير، يتمثل في تحول كتلة هائلة من الشباب العربي المحبط والمخنوق داخل صومعة نمط الحياة الرتيب والمقنن الذي وضع في إطاره، من حالة السكون السلبية إلى حالة الفعل المتحرك للتحرر من قيود تلك الصومعة الخانقة، في تعبير صريح لا لبس فيه عن أن الجديد لم يعد قابلاً للاستمرار بقبول حالة التعايش والتآلف مع القديم الذي هو بدوره لم يعتد يوماً على التجديد والمواكبة، معتبراً البقاء في صومعته الحالة الأكثر “صداقة وأماناً لبيئته” .
وهو ما تجسد في اندلاع حركات احتجاجية شبابية ضد الأوضاع القائمة، سرعان ما اتسع نطاقها بالتحاق معظم الفئات الشعبية بها تطلعاً لغد أفضل، الأمر الذي نتج عنه اهتزاز خطير في كافة مناحي منظومة الاستقرار والأمن الاجتماعي والاقتصادي الذي يشكل الركيزة الأساسية للحياة الطبيعية وعملية إعادة الإنتاج الكلية لأي جماعة بشرية قائمة ونشطة في المكان والزمان المحددين لها .
هذه الأوضاع الخطيرة والمتفجرة التي لم تشهدها المجتمعات العربية المعاصرة تتطلب على ما نزعم أطقماً من الحكماء ذوي بصيرة غالبة للأهواء ومرجحة للمقاربات العقلانية الباحثة عن معالجات كلية، وليست جزئية، للأزمات والمعضلات العالقة منذ أمد طويل من دون أن تقاربها مؤسسات الحكم غير المتجددة .
ومن هنا ينبع دور مؤسسة عربية كلية جامعة مثل جامعة الدول العربية وعلى رأسها شخصية متزنة ذات رؤية ثاقبة كشخصية موسى، خصوصاً أنه صار الأكثر اطلاعاً على دقائق الأمور في السياسات العربية الرسمية بعد مكوثه في منصبه أميناً عاماً للجامعة لعشر سنوات، وهو لذلك أكثر خبرة ودراية بمواطن الضعف والاضمحلال وعناصر القوة غير المفعلة في البلدان العربية قاطبة، ما يجعل منه، ترتيباً، الشخصية القيادية العربية الأقدر في الظروف الراهنة على التعامل مع المتغيرات العاصفة التي تشهدها المنطقة العربية منذ مطلع العام الجاري .
وحسبنا أن المناخات السياسية الجديدة التي أشاعتها الهبّات الشعبية في العالم العربي وأنشأت بمقتضاها واقعاً جديداً يختلف تمام الاختلاف عن ذلك الذي كان سائداً قبل مطلع العام الجديد (2011)، ما يوفر لأمين عام الجامعة العربية مساحة أكبر لحرية الحركة بالمعنى الإيجابي الواسع لحرية الحركة التي ربما شكلت نوعاً من الوسادة المريحة نوعاً ما في التقدم بأفكاره ورؤاه الإصلاحية وبرامجها التنفيذية اللازمة لتأمين عبور آمن للمجتمعات العربية لهذه المرحلة الدقيقة من تاريخها .
وبلا شك، فإن الأمين العام للجامعة العربية لن يستطيع وحده النهوض بهذه المهمة، إذ لا بد له من الاستعانة بطاقم جديد من الخبراء العرب في الشؤون السياسية العربية المعروفين بغيرتهم الوطنية والقومية .
هذا ما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأفضلية استمرار عمرو موسى في موقعه الحالي على خوضه غمار تجربة إدارة مصر رئاسياً في مرحلتها الانتقالية، وهي مهمة يمكن أن ينهض بها عدد لا بأس به من رجالات مصر الوطنيين الشرفاء الذين تزخر بهم ساحة العمل الوطني في مصر العزيزة الحرة .