نظراً لتدفق الأحداث بصورةٍ رهيبةٍ بعد سكونٍ طال حتى يئس الناسُ من التغيير والأمل، فقد تسارعتْ كذلك التفسيراتُ لهذا الطوفان الذي لا يتوقف من الأحداث، وتلمستْ الأصابعُ التحليليةُ ظواهرَ الأشياء وغاصَ بعضُها للباطن، وحددت آراءٌ ستةَ أو سبعةَ أسباب لهذه الأحداث، منها: توجه الجمهوريات للتوريث، وتحللُ الفئاتِ الوسطى لمستوياتٍ دنيا، فيُقال إن ابناءَ العائلاتِ الميسورة في زمان عبدالناصر على سبيل المثال لا يجدُ أبناؤها فرصةَ عمل وهم حملة الشهادات العليا، وأن ثمة تدهوراً عاماً في الدخول، فقد وصلتْ نسبةٌ كبيرةٌ من سكان مصر تُقدر بـ40 % حسب هذه الآراء إلى أن يكون دخلها اليومي لا يتجاوز الدولارين في اليوم!
وقال أحدُ الباحثين التونسيين لأحد المواقع إن من أسباب الفيضان التونسي أن الفساد الذي كان منتشراً ومتسماً بالسرية في الزمن الماضي غدا في الوقت الراهن واضحاً جلياً صادماً لعامة الشعب، فهناك عائلات محددة رهيبة الغنى تجاوزت كل حد في المال وبغرور إعلاني، كذلك فإن انتشار وسائل الإعلام الجماهيرية ونقلها صور الثراء والبؤس، ساهمت في رأيه بتفجير الموقف.
كذلك فإن تزايد معدلات المواليد في بلدان ومناطق معينة كانت من أهم الأسباب في تصورهم لهذه الانفجارات، فتُذكر مصر واليمن وتونس والمناطق الريفية العديدة في الوطن العربي المتسمة بالفقر الشديد وكثرة الانجاب، كانت من بؤرِ الحراك الكبيرة، وخاصة أن هؤلاء المواليد المتحولين لشباب لم يكونوا خارج أدوات المعرفة والاتصالات الحديثة والتأثيرات والتدخلات الأجنبية، وكانت أبوابُ المستقبل مغلقةً أمامهم.
كذلك فإن أدوات التنظيم والتحشيد القديمة تبدلت، ولم تعد الخطب والأحزاب والاجتماعات فاعلة، واستُبدلت بوسائل الاتصال الحديثة والتنظيمات الإلكترونية والخلايا الضوئية البرقية الهاتفة عبر المدن والملايين والبلدان.
ولابد أن نضيف إلى هذه الأسباب التي يعددها الكتابُ أن هذه الظاهرات الاجتماعية الثقافية جرتْ في زمنيةٍ خاصة من تدهور العلاقات الرأسمالية العالمية في مناطق السيطرة الكبرى، التي ألحقت البلدان العربية بها. فمنذ أزمة رهون العقارات في أمريكا والأزمة النقدية العالمية الواسعة تداعى العديدُ من الدول الرأسمالية المهمة في الأطراف خاصة كاليونان وإسبانيا، وتجسد ذلك في الوطن العربي عبر الانخفاض المستمر لأسعار النفط، فمن 150 دولاراً في سنوات2007 وما بعدها حتى المستوى السعري الراهن حوالي (100 دولار)، هذا أدى كله إلى انكماش الاقتصادات العربية وإلى خسائر مالية جسيمة في المدخرات العربية التي تصل إلى 2.4 تريليون دولار الموجودة في الغرب والتي تضررت كذلك بالأزمة العقارية والأزمة النقدية، مما أدى إلى انكماش في الاقتصادات المختلفة.
وقد توجهت الحكومات العربية في السنوات الأولى للأزمة المتحركة في الأجسام العربية الاجتماعية بأشكال متنوعة، إلى تحميل الجمهور هذه الخسائر والأعباء رغم هبوط الأجور المستمر عبر سنوات والتضخم المتزايد. فراحت تقلص الميزانيات وتحدث تقشفات في الانفاق العام وتضررت الصناديق العامة التي تصرف على التأمينات والخدمات المختلفة.
لكن الحراك الواسع لم يكن بغرض المطالب المعيشية الحيوية بدرجة أساسية، بل كان بسبب عجز الأنظمة عن ملاحقة مستويات الحريات في العالم، وتحول الاقتصادات في العديد من الدول إلى اقتصادات مافيا، في وقت عمت الأنظمة البرلمانية التداولية العلمانية مختلف البقاع.
ستؤدي الثورات العربية إلى مزيد من الحريات العامة والخاصة، وتغيير طابع الأنظمة الشمولية والمحافظة، فالأمة العربية وشعوبها المختلفة تستحق أفضل من هذين التخلف والعجز حتى عن مقاربة شعوب في العالم الثالث كالهند ذات الأنظمة الديمقراطية.
كذلك فإن هياكل الدول والأحزاب غدت قديمة وأغلبية العرب هم من الشباب، ولم يعودوا قابلين بهذه الأنماط القديمة من الأحزاب والهياكل، وآن لكثير من الأحزاب التي كانت مجرد وريقات صحيفة أو مقر أن تحيل نفسها للتقاعد. غدا من الصعب الآن العودة للطرق الأمنية في إدارة المجتمعات، واصبحت الأنظمة تبحث عن طرق مختلفة ذات شفافية حقيقية، وتطلق حرية تكون الأحزاب اللادينية واللامذهبية، وتبدأ وزارات جديدة في البحث عن الأسباب الحقيقية لتدهور حياة المواطنين العرب، وليبدأ زمن التداولية والديمقراطية الحقيقية في البلدان العربية الرائدة الذي سوف ينعكس على بقية الأقطار العربية.
أخبار الخليج 16 مارس 2011