كشفت الانتفاضات الشعبية والثورات الديمقراطية التي شهدها الوطن العربي أنّ أنظمة الحكم العربية المستبدة استبدادا مكشوفا أو مستترا، والفاسدة المفسدة فسادا مطلقا، والتابعة الذليلة للغرب الإمبريالي والمتواطئة مع العدو الصهيوني، لم تكن تمتلك مشروعا وطنيا جامعا يبرر وجودها، ولم يكن لديها مشروع آخر يسبق مشروع الحكم والانفراد به وضمان استمراره، فهو مشروعها الأول وهو مشروعها الأوحد، الذي كانت تحاول تغليفه وتمويهه بادعاءات كاذبة وشعارات فارغة بددتها الانتفاضات وفضحتها الثورات؛ وكشفت زيفها الحركات الشعبية.
وهذا ما يفسر أنّه لم يكن لدى هذه الأنظمة العربية الحاكمة من شيء تقدمه بعدما واجهت مصيرها المحتوم غير القمع البوليسي والإفراط في استخدام القوة، والاعتماد على البلطجية والمرتزقة، مثلما فعل بن علي ومبارك، ومثلما يفعل القذافي متحللا من أي التزامات، ومثلما يتعنتر علي عبداللّه صالح على المتظاهرين في ساحة التغيير، ومثلما جرّب ويجرّب الآخرون شيئا منه في مواجهة اعتراضات شعوبهم.
وإذا لم يجد القمع نفعا، وهو لن يجدي، فلا بأس من المناورة والخداع وكسب الوقت عبر تقديم تنازلات شكلية جزئية لا تغيّر شيئا من الطبيعة الاستبدادية لهذه الأنظمة ولا تغيّر من فسادها المستشري، فتبدأ لعبة استبدال بعض الوجوه المحروقة، ثم توجّه دعوات فاقدة الصدقية إلى حوار غير جاد مع المعارضة يقوم أولا وقبل كل شيء على الإقرار بقبول استمرار هذه الأنظمة في مواقع السلطة والقرار.
والجديد الآن أنّ الطبقات الحاكمة لم تعد قادرة على مواصلة الحكم بالوسائل والأساليب السابقة التي اعتادتها، وهذا مصدر أزمتها إذ أنّها لا تعرف ولا تتقن استخدام وسائل وأساليب أخرى سوى ما كانت تتعامل به، وهذا ما يفسر معاودتها إلى استخدام وسائل القمع بعد فترة من الهدنة وتكرار اللجوء إلى القوة المفرطة بعد ادعاء وقتي بالتسامح… وفي المقابل، لم تعد الطبقات المحكومة تقبل أن تُحكم بالوسائل والأساليب السابقة، وهي ترفض الإذلال والتهميش والتضييق، وأصبحت تدرك أنّ أي تراجع عن استحقاق التغيير سيرتد عليها انتقاما وقمعا وتسلطا، وهذا ما يفسر عدم خشية الجماهير من مواجهة آلة القمع… وغير هذا وذاك، فقد نجم عن الانتفاضات الشعبية والثورات الديمقراطية في تونس ومصر تبدّلا في موازين القوى لا يمكن تجاهله ولا يمكن تجاهل تأثيراته الايجابية الآنية واللاحقة على مستوى المنطقة العربية ككل، ناهيك عن الآفاق الواعدة بعد حسم مصير النظامين الليبي واليمني.
أما الغرب الإمبريالي، الذي فوجئ بالثورة التونسية ولم يكن يتوقعها، فقد حاول أن يتدارك أمره مع الثورة المصرية فارتبك وتخبّط، فيما يبذل الآن جهده لقطف شيء من ثمار الثورة الليبية، وهذا ما تتسابق عليه أوروبا مع الولايات المتحدة، فيما تعيد الإدارة الأميركية ترتيب أوراقها في اليمن، وتبادر إلى تقديم النصائح الاستباقية في الخليج حيث النفط… ولكن من الواضح أنّ الغرب الإمبريالي لم يعد قادرا على القيام بدور الحامي الضامن للأنظمة العربية المرتبطة به مثلما كان يوهمها ويوهم شعوبها.
والأهم ما تواجهه إسرائيل من تحد تاريخي خطير غير مسبوق يهدد مستقبل وجودها الغاصب في المنطقة… فقد كان الواقع العربي البائس والخاضع هو المصدر الأول لقوة إسرائيل، وها هو الواقع العربي يتجّه نحو تغيير ثوري متسارع يبدأ اليوم بالأعوان وسيطال غدا الأسياد.
عالم اليوم 14 مارس 2011