قال لي وهو يحاورني ؛ قرأت عن هذه الثورات المتلاحقة في منطقتنا العربية بأنها صيغ مقتبسة ومتقاربة مع ما جرى في تونس ومصر ؛ أو أنها تحولت إلى موضة مستنسخة ؛ حتى بشعاراتها ؛ فما هو رأيك بهذا الوصف ؟
قلت له ــ لقد سمعت وقرأت كثيرا هذه الايام عن مثل هذا الوصف و التحليل والتعليل ؛ وقد يكون بعضها كذلك من حيث الشكل الظاهري ولكن السبب بنظري يعود أساسا الى كونها تعبر عن الأمة العربية الموحدة شعبيا إضافة الى اشتراكها في القاسم المشترك الذي يجمع بين عناصرها؛ انها تختلف في بعض التفرعات ولكنها تشترك في الجوهر المسبب لانفجارها ؛ قال مثلا ؛ قلت ان اشتراكها يتوزع على المسببات التالية وهي القاسم المشترك بينها ـــ
الجلوس على كراسي الحكم مدة طويلة جدا إضافة الى انتشار بدعة التوريث ؛ التلاعب بالدستور والقوانين لمصلحة سلطة الحاكم ؛اعتبار القمع البوليسي هو الحل الناجع الوحيد في تثبيت السلطة ؛ الفساد المالي والإداري والتمسك بالمنافع الشخصية ؛ الانتخابات المزورة ؛ الأحزاب الحكومية الجاثمة على رقاب الشعب ؛ الإعلام المسيس ؛ المحاصصات والمحسوبيات ؛ البطالة ما بين الشباب ؛ تدهور الخدمات الضرورية والرعاية الاجتماعية ؛ نهب المال العام بشكل وقح وعلني ؛الترهل البيروقراطي ؛ اهمال تام لقاعدة الرجل المناسب في المكان المناسب ؛ الابتعاد عن قاعدة العدالة للمواطنين كافة وان الجميع سواسية امام القانون ؛ اهمال تام للكفاءات بكل انواعها ؛ تناسي قاعدة ان مصلحة الوطن فوق كل اعتبار واحلال قاعدة المغانم الخاصة بدلا عنها عليه … فحينما تشترك الامة الواحدة في في مثل هذه السلبيات المدمرة ؛ يصبح امر انفجارها مهيئا تماما لمثل هذا الزلزال الذي نراه اليوم والذي يصرخ مطالبا باكتساح هذه الانماط من انظمة الحكم التي ما عادت تصلح ابدا لهذا العصر التكنولوجي الحديث المذهل والمتطور .
قال ؛ أؤيدك تماما فيما ذهبت اليه ؛ ولكن اليست هناك فوارق بين هذه الثورة وتلك ؟ قلت ؛ بالطبع هناك فوارق تعود الى طبيعة وخصوصيات كل شعب من شعوب هذه الامة الواحدة ؛ ومنها الشعب الليبي مثلا ؛ وكذلك الى طبيعة نظام وتكوين سلطة الحكم الغريب الجاثم على رقاب ابنائه كل هذه السنوات الطوال ؟ فهذا شعب له جذور قبلية وصحراوية وهو متشبع بروح المقاومة للمحتلين ؛ و نظام الحكم فيه يختلف جملة وتفصيلا عن باقي انظمة الدول الشرق اوسطية البعيدة او حتى المتاخمة له افريقيا كالتشاد والنيجر ؛
نظر الي مليا وقال ؛ احب ان اعرف تفاصيل أكثر عن هذا الاختلاف ؛ وما هي الصعوبات التي تكمن وراء مطامح التغيير الذي يطمح اليه الشعب الليبي ؟ قلت اليك جوابي على ما استفسرت عنه ولكن بشيء من التكثيف ؛
ان تشكيلات الحكم في ليبيا تختلف عن كل ما عرفناه من انظمة حكم ؛ فهي تعتمد على المؤتمرات واللجان الشعبية ؛ ففي كل قرية او قل في كل حي مؤتمر شعبي ؛ يتوزع على كيمونات صغيرة تتكون من مائة شخص مثلا ؛ وتجتمع هذه في مؤتمر شعبي اساسي وتلتقي هذه في شعبية واحدة ــ محافظة ــ ؛ وتنظم امرها وتراقبها مؤتمرات شعبية تنعقد بين حين وآخر .. وتتسلسل تنظيماتها العجيبة بارتباطا ت متتشابكة ؛ تلتقي مع الروابط واللجان الشعبية والامانات وتتواصل باعمالها مع الاتحادات والنقابات لتلتأم جميعا في اطار مؤتمر الشعب العام الذي يتولى الادارة والاشراف العام …. الخ ومما يعقد هذا الموضوع هو وجود شبكة مالية واقتصادية واسعة النطاق تتوزع على مناطق شاسعة من المستفيدين في الداخل وفي مختلف انحاء العالم تغذيها واردات النفط والغاز الهائلة التي لها اول وليس لها آخر .. ويحمى كل هذه الامبراطورية المتنفذه قوة عسكرية وامنية ضاربة برا وجوا وبحرا ؛ اضافة الى قوى قبلية متنوعة، وهي موالية للنظام ” إلى يوم قيام الثورة ” و مجهزة بالتنظيم والسلاح من خلال كتائب عسكرية منتشرة بشكل واسع على امتداد الجماهيرية ؛ تعتمد كل هذه التنظيمات بقوتها على ذخيرة حديثة تمتلأ بها مخازن اسلحة شديدة التحصين تتوزع على مناطق محددة منها المطارات ومنابع البترول والغاز .
من هنا يتبين لك الفرق بين ثورة واخرى لا من حيث المطالب الجوهرية ؛ بل من حيث الصعوبات التي تكتنف هذه او تلك حينما تتصدى ثوريا الى محاولة تفكيك سلطة الحكم والإجهاز عليها كليا من جهة وكذلك القيام بتأسيس نظام حكم جديد يتولى أمر الدولة الجديدة من جهة أخرى .
ان مجرد قيام شباب الثورة الليبية بمحاولة مجابهة سلطة الحكم المعقدة تلك ؛ بصدور عارية ليس لها غير ايمانها بالعيش الحر الكريم بعيدا عن سلطة متحكمة في رقاب الشعب لأكثر من أربعين عاما . يعتبر عملا بطوليا شجاعا لا نظير له ، ومن هنا فان الثورات العربية تلتقي عند الجوهر المسبب لها وهو ” القاسم المشترك ” من الحيف والظلم والإهمال والذي تطرقت اليه في اعلاه ؛ لكي يتوزع بعدئذ على الشعوب على أنماط وأشكال تختلف بحسب طبيعة واقع حالها ؛
و جوهر الحكم الذي يجثم عليها دون إعطائها اية فسحة من أمل في الخلاص منه بالطرق والأساليب الديمقراطية السلمية المتعارف عليها. على الحكام العرب ان يدركوا من كل هذا البركان المتفجر ؛ ان أسلوبهم العتيق التسلطي في الحكم ما عاد يتلائم بتاتا مع تطلعات شباب هذا العصر المنطلق نحو آفاق الحرية .
خالص عزمي
كاتب عراقي
موقع الناس 5 مارس 2011