مساء الخامس من مارس، قررت أن يكون هو أحد أيام زيارتي لـ «دوار اللؤلؤة». لن أتوقف عند سبب اختياري هذا التاريخ لتلك الزيارة، فربما اختلفت القوى السياسية على التاريخ الصحيح ليوم انطلاقة انتفاضة مارس/ آذار 1965 المجيدة، لكن الأمر بالنسبة لي، وللمواطنين العاديين من أمثالي سيان، فشهر مارس 1965 هو، بكل بساطة، شهر اندلاع انتفاضة شعب البحرين ضد قضايا كثيرة، ليست الأوضاع المعيشية الخانقة، والفصل التعسفي الذي أقدمت عليه شركة نفط البحرين (بابكو) حينها، أكثر من عود الثقاب الذي أشعل فتيلها، أو القشة التي قصمت ظهر بعير الأوضاع السياسية والاجتماعية المتردية حينها. شهر مارس بالنسبة إلى المواطن البحريني هو أحد الأشهر المقدسة في تاريخ البحرين الحديث، والمضيئة عند الحديث عن غياب فيروس الطائفية البغيض من صفوف الحركة الوطنية.
تجولت في «أزقة» الدوار، دخلت بعض خيامه، أصيخ السمع، في خشوع، لمكبرات الصوت وهي ترسل لنا بصوت جهوري مرددة «طريقنا أنت تدري …» الذي شارك في كتابة مقاطعه مناضلون، من أمثال أحمد الشملان، ومجيد مرهون، وكأنما – مكبرات الصوت – تريد أن تقول للجميع بأن الحركة الوطنية التقدمية البحرينية كانت ولا تزال تواصل نضالاتها كي تكتب تاريخ البحرين بأحرف من ذهب وينحت صورها في الصخر «رفاق»، ومناضلون أشاوس ليس هنا مجال سرد قوائم أسمائهم. فتاريخ البحرين سجل متواصل ليست انتفاضة مارس 1965 سوى إحدى حلقاته. في خضم كل ذلك، تذكرت نضالات الحركة الطلابية البحرينية، وهي تقيم احتفالات أسابيع الخليج العربي، وتراقصت أمام عيني قامات مناضلين البعض منهم تركنا مودعاً جراء أمراض ورثتها لهم سنوات النضال من أمثال أحمد الذوادي، وليلى فخرو، وآخرين مازالوا يعايشون تلك الأمراض من أمثال أحمد الشملان الذي يدفع، صامتاً وصامداً ضريبة، شموخه ورفضه طأطأة رأسه، ويختار، بإصرار لا يملك الواحد منا إلا أن يحترمه، أن يعاني من آلام مرضه أن يقدم أدنى أشكال التنازلات، التي قد يراها البعض «بسيطة»، ويعتبرها هو، وهو على حق، «باهظة الثمن».
في خضم ذلك الصخب النضالي العالي الوتيرة، وجدت نفسي مرغماً، أستعيد ذكريات الماضي، متحاشياً إسقاطها على الحاضر، كي لا أجتر الجراح، وتغيب عن ناظري صورة المشهد الحالي الذي يضع البحرين برمتها على فوهة بركان، متى ما انفجر فسوف يرسل حممه الملتهبة التي من المتوقع أن تحرق الجميع دون أي استثناء. صور الماضي، وبدون قصد، أبرزت أمامي صورة واحد من أهم رموز الحركة الوطنية المعاصرة، وهو عبدالرحمن محمد النعيمي، شفاه الله من كربته، والمعروف في صفوف تلك الحركة باسم «أبو أمل».
لسبب ما، أجهله، افتقدت «أبو أمل»، والذي هو الآخر أحد ضحايا قانون أمن الدولة البغيض، فالأمراض التي أنشبت أنيابها في جسده، والتي التقطها خلال فترة المنافي، لم تكن بعيدة عن مسئولية مواد قانون أمن الدولة.
افتقدت «أبو أمل»، ربما لكونه يمثل أحد رموز الوحدة الوطنية التي نحن اليوم في أمَسّ الحاجة إليها. أشفق على «أبو أمل» أن يرى اليوم، حركة شعبه الوطنية تمزقها أمراض الطائفية، وتتقاذف سفنها رياح الانقسامات السياسية حتى في نطاق الطائفة الواحدة. ليس هناك ما يبرر اليوم، ونحن على أبواب الدخول إلى غرف الحوار، والجلوس على مائدة المفاوضات، أن نذهب مفرقين، في مواجهة قوة واحدة ستعمل كل ما في وسعها كي تستفيد من عناصر التفرقة التي تنتشر في جسد المعارضة المثخن بجراح المعارك التي خاضتها تلك المعارضة على امتداد الأسابيع الستة الماضية في أقصر الأحوال.
الإشارة إلى قائد من مستوى «أبو أمل»، دون الانتقاص من كفاءة وإخلاص أيٍّ من رموز الحركة الوطنية التي تقود المعارضة اليوم، تنبع من الحاجة إلى شخصية كارزمية قادرة على رأب الصدوع التي تنخر جسد المعارضة البحرينية، وتحول دون انبثاق قوة وطنية واحدة تخوض المفاوضات من منطلقات موحدة. هناك حاجة ماسّة إلى شخصية وطنية قادرة على فهم الأوضاع على نحو صحيح من منطلقات وطنية شاملة تتراجع أمامها المكاسب الطائفية أو الفئوية الضيقة الأفق القصيرة المدى.
ولعله من المناسب اليوم، تحذير المعارضة البحرينية، والحديث هنا موجّه إلى الجمعيات (الأحزاب) السياسية الرئيسية، إلى أن الاستمرار في حالة الاختلاف على القضايا الثانوية، أو الإمعان في مناقشتها، دون الالتفات نحو القضايا الكبرى الاستراتيجية، سيفقد المعارضة البحرينية فرصة تاريخية، ربما من الاستحالة تكرارها.
يناشد المواطن البحريني اليوم، قيادات المعارضة، أن تقرأ خريطة الواقع السياسي بشكل صحيح، وتشخص السيناريوهات المحتملة على نحو دقيق، وتحدد استراتيجية الحوار الذي سوف تخوضه في المستقبل القريب بما يتيح لها تحقيق أعلى درجة من المكاسب، وأدنى ثمن للتضحيات. إن الموقف الراهن لا يحتمل أي خطأ مصدره سوء التقدير أو اختلال النظرة، فأي خطأ مهما كان صغيراً اليوم، ستكون توابعه وخيمة وذات أبعاد خطيرة، إن لم تكن اليوم، ففي المستقبل. عوامل الصراع اليوم تحمل أقلام رسم ملامح صورة المستقبل، وأي ظل تحملها هذه الصورة اليوم، ستكون دوائره أكثر سواداً في المستقبل.
ونحن نرى الصورة القاتمة على النحو الذي تتكون عليه اليوم، ليس هناك ما يمكن قوله أكثر من كم نحن بحاجة إليك، فهذا أوانك يا «أبو أمل».
صحيفة الوسط 07 مارس 2011م