إلى ما قبل بضع سنوات كان الحديث عن أن أمام الصين نصف قرن أو أكثر كي تتمكن من معادلة القوة الاقتصادية الأمريكية وحوالي 20 عاما لتبلغ من القوة ما بلغته اليابان. ما حدث هو أن الصين لم تكتف باختزال الزمن ومعادلة القوة الاقتصادية اليابانية وإنما أزاحت اليابان وأخذت مكانها كثاني أكبر الاقتصادات العالمية، وأما الولايات المتحدة فستصلها الصين في السنوات القلية المقبلة التي لن تتجاوز بأي حال نهاية العقد الثاني من هذا القرن.
فمن الحقائق المذهلة انه عندما بدأت الصين إصلاحاتها الاقتصادية في عام 1979، فإنها نجحت بسرعة فائقة في انتشال عدد كبير من سكانها من قائمة الفقر تفوق أولئك الذين كان من المفترض انتشالهم من الفقر بموجب برامج المساعدات في مختلف أنحاء العالم. فقد كان نحو 85% من الشعب الصيني يعيش بأقل من دولار يوميا، ولكن في عام 2005 تقلصت النسبة إلى نحو 16% من السكان. وفي العام الماضي تفوقت الصين على اليابان كثاني أكبر اقتصاد في العالم. والمتوقع الآن أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة بالنسبة لحجم الاقتصاد (أي القيمة الإجمالية للناتج المحلي السنوي) في عام 2031 وربما قبل هذا التاريخ وليس في عام 2050، كما كان يعتقد سابقا وذلك استنادا إلى فوارق معدلات النمو السنوية للدولتين.
ليس هذا وحسب، فلقد أصبحت الصين في عام 2007 ثالث أكبر منتجي السيارات في العالم بإنتاج وبيع 7 ملايين سيارة، متجاوزة بذلك ألمانيا، وحالّة بعد الولايات المتحدة واليابان، وقريبا جدا ستنضم إلى الدول المنتجة والمصدرة للطائرات التجارية بما في ذلك إلى السوق الأمريكية نفسها، وبعد مرور حوالي نصف قرن على إطلاق برنامجها الفضائي نجحت الصين في دخول عالم الفضاء بتحليق أول رجل فضاء صيني في الفضاء وامتلاكها قريبا مختبر صغير في الفضاء ومن بعد محطة فضائية.
وحتى سنوات قليلة خلت كانت بلدان قارة أميركا اللاتينية عناوين فاقعة للدكتاتوريات السوداء ومرتعا و”ملاذا آمنا” للنازيين ولكل الفارين من العدالة من جميع بلدان العالم.
وعلى نحو سريع، وغريب بعض الشيء، قررت بلدان هذه القارة، وشعوبها تحديدا، القطع مع الماضي الأليم..ماضي تلك الدكتاتوريات العسكرية السوداء والتحول صوب الديمقراطية الشعبية (البرلمانية أكثر منها الرئاسية) واعتماد التعددية سبيلا لضمان التجديد والإحلال، والحيلولة دون ظهور بثور وفقاعات التسلط وانتشار مظاهره وتبلورها لاحقا في صورة ظاهرة عامة ساحقة ماحقة تجرف معها السلطة والثروة إلى حيث التيه والضياع التنموي الشامل.
البرازيل على سبيل المثال، حوَّلها الرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا الذي وصل إلى سدة الرئاسة في عام 2003 عن طريق صناديق الاقتراع وترك منصبه بعد انتهاء ولايته الثانية في شهر يناير الماضي، حوَّل البرازيل إلى إحدى أكبر القوى الاقتصادية الصاعدة في العالم إلى جانب الصين والهند وروسيا وجنوب إفريقيا، فنجح في إضافة عشرة ملايين برازيلي إلى مصاف الطبقة الوسطى، وحولها أيضا إلى قوة زراعية عالمية (تأتي في المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث تضاعفت صادراتها مرتين خلال السنوات الأربع الأولى فقط من حكمه، فهي المنتج والمصدر الأول في العالم للسكر والقهوة وعصير البرتقال والتبغ ولحم البقر واللحوم البيضاء وثاني مصدر لزيت الصويا.
ولا يقتصر الأمر على البرازيل، فهناك المكسيك وتشيلي والأرجنتين وغيرها من البلدان اللاتينية الأخرى الصاعدة.
إلى ذلك أيضا، فانه حتى وقت قريب لم يكن أحد هنا في العالم العربي وفي العالم أجمع، يتصور أن شباب الأمة العربية كان يختزن كل هذه الطاقة الهائلة والكاسحة القادرة على إحداث تغييرات كبرى ونوعية في الحياة العربية التي ظلت رتيبة ستاتيكية ممضة على مدى حوالي نيف وخمسة عقود، ثابتة لا يحركها ساكن فإذا بهذا الإعصار الشبابي العارم ذي العزيمة التي لا تلين والتنظيم المذهل الذي أظهره هؤلاء الشباب في العالم العربي ولفتوا إليهم الأنظار في جميع أنحاء العالم كقوة تغيير سلمية كامنة وخلاقة.
لقد كان – نعم كان ولم يعد كذلك منذ مطلع عام 2011 الجاري – العالم العربي الإقليم الجغرافي الوحيد في العالم الذي اختار القائمون على إدارته “النأي به” عن “الحوادث” التطورية والإصلاحية العاصفة التي ما فتئت تهب على زوايا الكون الأربع، بل والعمل ما أمكن لإخراجه من مجرى التاريخ وإبقائه في صومعته يجتر ويعيد إنتاج أوهامه و”أساطيره” التنموية “الاعجازية” التي لا وجود لها إلا في مفردات التطبيل والتزمير والتجميل المدمرة.
حتى كاد البعض يفقد الثقة في صحة قوانين التطور الاقتصادي والاجتماعي التي كان اكتشفها فلاسفة ومفكرو عصر النهضة والعصر الصناعي الأول باعتبارها تعبيرا حيا ومدروسا للعلاقات المنتظمة والدائمة لعناصر الظاهرة الاجتماعية موضوع الدراسة، من حيث عدم سريان مفعولها على مجتمعات الإقليم العربي، بل إن بعض ذلك البعض ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بفقدانه الثقة والأمل في قدرة المجتمعات العربية على إحداث التغيير الذي طال انتظاره للالتحاق بالأمم الأخرى التي سبقتنا في السفر إلى المستقبل وعالمه الواسع المليء بالفرص والتحديات التي لا يمكن مقابلتها إلا بـ “بُنى تحتية” جديدة تختلف عن “بُنى” القرنين التاسع عشر والعشرين التقليدية الجامدة.
فجأة، وكما قررت شعوب أمريكا اللاتينية في لحظة تاريخية فاصلة أن تستجمع قواها وتتخلص من أنظمتها العتيقة التي تجاوزها الزمن، قررت شعوب المنطقة العربية أن تضع حدا لحالة الضياع والتيه والتردي التي “تحتلها وتستوطنها منذ عقود، وأن تحرر إرادتها وتقبض مستقبلها بأيديها لتضمن لها ولأجيالها المقبلة مكانا فيه، في عالم لا يرحم المتخلفين عن ركب مسيرته التقدمية.
بهذا المعنى يكون العالم العربي قد نجح في اللحظة الأخيرة في أن يصبح جزءً من مفهوم عصر السرعة الذي ظهر في الغرب لأول مرة تعبيرا عن الانجازات العلمية والفكرية والثقافية المتلاحقة والمتسارعة التي ظلت تسجلها شعوب البلدان الغربية منذ عشرينيات القرن العشرين الماضي. وعلى ذلك فان الراجح أن تفتح هذه الانعطافة الحادة والمفاجئة في البنى الفوقية التي يعود للشباب العربي الذي يشكل أكثر من 60% من سكان العالم العربي، الفضل الأول في إحداثها، الطريق واسعا أمام تحولات عميقة ومتسارعة في كافة مناحي الحياة العربية.