في ظل الإمارة التقليدية قبل استقلال الكويت كانت سلطة الأمير مطلقة كحاكم، باستثناء فترتين قصيرتين جرتا في عهد الشيخ أحمد الجابر للحدّ من الحكم المطلق تمثّلت الأولى في المطالبة التي تحققت بإقامة مجلس للشورى في العام 1921، وأخرى في العام 1938 لإقامة نظام حكم دستوري برلماني تحققت بين نهاية يونيو من ذلك العام ولكن سرعان ما تمّ الإجهاز عليها في بدايات شهر مارس من العام 1939 ليعود الحكم مطلقا، فيما تكررت في عهد خلفه الشيخ عبداللّه السالم المطالبات بالحكم الدستوري إلى أن تهيأت الظروف المناسبة له بعد نيل الكويت استقلالها عندما جرت انتخابات المجلس التأسيسي في العام 1962 الذي تولى وضع الدستور.
وبذلك انتقلت الكويت من صيغة الإمارة التقليدية والحكم المطلق إلى صيغة أولية ومحدودة غير مكتملة من الإمارة الدستورية في ظل نظام دستوري وسط بين النظامين البرلماني والرئاسي مع ميل نحو الأول، وذلك ضمن معادلة لخصتها المادتان الرابعة والسادسة من الدستور في كون الكويت إمارة وراثية في ذرية المغفور له مبارك الصباح، وأنّ نظام الحكم فيها ديمقراطي السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعا… وبالطبع فقد كان هذا الانتقال على محدوديته وعدم اكتماله خطوة كبيرة إلى الأمام قياسا بما كانت عليه الحال قبلها، بالانتقال من الحكم المطلق إلى الحكم الدستوري الذي يحدد صلاحيات الأمير وفقا للدستور ذي النظام الوسط بين النظامين البرلماني والرئاسي، ولكن تلك الخطوة نفسها كانت بمثابة خطوة إلى الوراء قياسا بما كانت عليه الحال في ظل دستور 1938، الذي كان يؤسس لإمارة دستورية ناجزة وفق نظام برلماني.
وعندما نتفحص دستور 1962، الذي لا يمكن الادعاء أنّه دستور ديمقراطي مكتمل، وإنما هو دستور الحدّ الأدنى، نجد أنّه أخذ ببعض مظاهر النظام البرلماني مثل ممارسة الأمير سلطاته بواسطة وزرائه، ووجود برلمان منتخب من الشعب، وإقامة نظام مرن لفصل السلطات الثلاث مع تعاونها، وتقرير مسؤولية الحكومة أمام مجلس الأمة وحقّه في الرقابة… وفي المقابل نجد أنّ هذا الدستور قد أخذ ببعض مظاهر النظام الرئاسي المتمثلة في الاختصاصات الواسعة والمؤثرة لرئيس الدولة، على خلاف النظام البرلماني، كما نجد أنّ الدستور لم يتبع القاعدة البرلمانية المعروفة التي توجب اختيار الوزراء من بين النواب المنتخبين، وإنما يتم اختيارهم من داخل مجلس الأمة ومن خارجه، وغالبيتهم من خارجه، ناهيك عن أنّ الحكومة الجديدة لا تحتاج عند تشكيلها إلى نيل ثقة مجلس الأمة بها، ولا يملك المجلس أن يطرح الثقة في الحكومة ككل، وإنما بالوزراء فرادى بعد استجوابهم، أما رئيس مجلس الوزراء فلا يمكن طرح الثقة به، وإنما يمكن فقط تقديم طلب بعدم إمكان التعاون معه بعد استجوابه، وهو ما يوضع أمام رئيس الدولة كحَكَم ليتخذ قراره في شأن رئيس مجلس الوزراء أو حلّ مجلس الأمة، ما يحصّن رئيس مجلس الوزراء عمليا على نحو مبالغ فيه.
ومن بين أسوأ مظاهر عدم اكتمال الطابع الديمقراطي في دستور 1962 أنّ الوزراء من غير النواب المنتخبين أعضاء في مجلس الأمة بحكم وظائفهم، ولهم أن يشاركوا في التصويت على القوانين والإجراءات البرلمانية، فيما عدا التصويت على طرح الثقة بأحد الوزراء وطلب عدم إمكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء… ونظرا لأنّ غالبية الوزراء من غير النواب، ونظرا لأنّ عدد أعضاء مجلس الوزراء ثلث أعضاء المجلس الخمسين المنتخبين، فإنّ نحو ثلث أعضاء البرلمان لم يتم انتخابهم من الشعب، وإنما تمّ تعيينهم، وهذا انتقاص واضح من طابعه التمثيلي.
وأحسب أنّه بعد نصف قرن على وضع الدستور، وبعد التحولات الكبرى والمتسارعة الجارية في الوطن العربي نحو الديمقراطية، وبعد المطالبات بالانتقال إلى الملكية الدستورية في السعودية واستكمالها في الأردن والبحرين والمغرب، فقد حان الوقت لأن يتم استكمال الانتقال إلى الإمارة الدستورية والحكم البرلماني في الكويت عبر إصلاح دستوري مستحق…
وللحديث صلة
إصلاح دستوري مستحق 3 من 3
استكمال الانتقال إلى النظام البرلماني هو عنوان الإصلاح الدستوري المستحق، وهناك أساس تاريخي لمثل هذا الإصلاح الدستوري يعود أول ما يعود إلى الوثيقة الدستورية التي أقامت مجلس الأمة التشريعي في العام 1938، ويعود بعد ذلك إلى الاقتراحات الملموسة في هذا الاتجاه عند صياغة مشروع الدستور الحالي في العام 1962
فعلى سبيل المثال فإننا عندما نرجع إلى محضر الجلسة الخامسة للجنة الدستور في المجلس التأسيسي المنعقدة يوم 21 أبريل من العام 1962 نجد أنّ غالبية أعضاء اللجنة المكونة من خمسة، وهم رئيس المجلس التأسيسي عبداللطيف محمد ثنيان الغانم، ووزير العدل حمود الزيد الخالد، وعضو المجلس يعقوب الحميضي قد تبنوا فكرة النظام البرلماني على خلاف فكرة النظام الرئاسي التي كان يتبناها وزير الداخلية الشيخ سعد العبداللّه… وفي وقت لاحق تمّ التوافق بين الطرفين على تسوية تقضي وفق المذكرة التفسيرية للدستور بأن يتم تبني “طريق وسط بين النظامين البرلماني والرئاسي مع انعطاف أكبر نحو أولهما، لما هو مقرر أصلا من أنّ النظام الرئاسي إنما يكون في الجمهوريات، وأنّ مناط قيامه كون رئيس الدولة منتخبا من الشعب لبضع سنوات ومسؤولا أمامه بل أمام ممثليه على نحو خاص.
والمثال الآخر على البعد التاريخي للتوجّه نحو النظام البرلماني أنّ المشروع الأول للدستور لم يكن يتضمّن أي إشارة إلى عضوية الوزراء من غير النواب المنتخبين في مجلس الأمة، إذ كان الأصل أنّ “الوزراء الذين ليسوا أعضاء في مجلس الأمة لهم حقّ حضور جلساته والاشتراك في مناقشاته دون أن يكون لهم حقّ التصويت” … ولاحقا نجد أنّه عندما تمّ إقرار المادة 80 من الدستور على النحو الذي صدرت به، بحيث يصبح الوزراء غير المنتخبين بمجلس الأمة أعضاء في هذا المجلس بحكم وظائفهم، فقد حرصت لجنة الدستور وبعدها المجلس التأسيسي على أن تتضمّن المذكرة التفسيرية لهذه المادة الإشارة إلى ذلك بالقول “ابتدع الدستور فكرة لا تخفي أهميتها برغم عدم مجاراتها لكمال شعبية المجالس النيابية”… وبالتالي فإنّ الدعوة الآن إلى تنقيح المادة 80 من الدستور بحيث تقتصر عضوية مجلس الأمة على النواب المنتخبين إنما هو عودة إلى الأصل البرلماني السليم من شأنها ضمان اكتمال شعبية المجلس النيابي.
إنّ استكمال الانتقال إلى النظام البرلماني يتطلب في حدّه الأدنى تنقيح عدد من مواد الدستور، بدءا من تنقيح المادة 80 من الدستور لقصر عضوية مجلس الأمة على النواب المنتخبين، وتنقيح المادة 98 بحيث تتقدم كل وزارة فور تشكيلها ببرنامجها إلى مجلس الأمة لتنال الثقة النيابية على أساسه، وتنقيح المادتين 101 و102 بحيث يمكن طرح الثقة في الوزراء ورئيس مجلس الوزراء من دون الحاجة إلى المرور بآلية الاستجواب، ومن دون تفريق بين طرح الثقة في الوزراء أو في رئيسهم واعتباره معتزلا لمنصبه شأنه شأنهم من تاريخ عدم الثقة به، وعدم اشتراط تحكيم رئيس الدولة عند طرح الثقة في رئيس مجلس الوزراء لاتخاذ قراره إما بإعفاء الرئيس أو بحلّ مجلس الأمة، مثلما هي الحال الآن عند تقديم طلب عدم إمكان التعاون معه، وأخيرا تنقيح المادة 116 من الدستور، أو تعديل اللائحة الداخلية لمجلس الأمة، بما يؤدي إلى تأكيد صحة انعقاد جلسات مجلس الأمة من دون اشتراط حضور الحكومة، حتى لا يؤدي غيابها إلى تعطيل جلسات المجلس مثلما حدث وتكرر.
أخيرا، فإنّه أيًّا كان الأمر فإنّ تنقيح دستور الحدّ الأدنى على نحو يؤدي إلى المزيد من ضمانات الحرية والمساواة باتجاه تكريس الطابع البرلماني إنما يمثّل استحقاقا قائما لتطوير نظامنا الديمقراطي، أما دعوات تنقيح دستور على نحو يقلّص هذه الضمانات فهي دعوات سلطوية تهدف إلى النزول بالحدّ الأدنى لدستور الحدّ الأدنى إلى ما هو أدنى فأدنى… وشتان شتان ما بين التنقيحين.
عالم اليوم 5 مارس 2011