الاتجاه الصعودي المتواصل لأسعار السلع Commodity prices، يعيد إلى الأذهان ذلكم الصعود التاريخي لأسعار السلع من مواد هيدروكربونية (نفط وغاز وفحم) ومعدنية (ألمنيوم، ومنتجات زراعية (خصوصاً الأرز والسكر والحبوب . .الخ) الذي شهده عام 2008 بصورة لم يسبق لها مثيل حين وصل سعر برميل النفط في يوليو/ تموز 2008 إلى 147 دولار .
فلقد وصل سعر برميل النفط إلى 100 دولار وتجاوزه في بعض جلسات أيام التداول في بورصات البيع الفورية Spot markets وسعر طن النحاس يواصل ارتفاعه محققاً زيادة نسبتها 17% منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، والحال ينطبق على بقية المعادن والسلع الأخرى .
البعض يرجع ذلك إلى تراجع القلق بشأن مستقبل النمو الاقتصادي العالمي، والأصح أن قيام الإدارة الأمريكية بحقن الاقتصاد بجرعة تنشيطية ثانية من أموال حزمة التحفيز الاقتصادي في شهر نوفمبر الماضي هي التي أعطت شعوراً ما بالاطمئنان للمستثمرين وخصوصاً المضاربين في أسواق السلع المستقبلية .
في أزمة سبعينات القرن العشرين الماضي الاقتصادية العالمية أجمع الغرب الذي كان يتحكم في أجهزة الميديا، على تحميل النفط مسؤولية الأزمة . من الناحية التقنية الصرفة يمكن أن يحمل مثل هذا الاتهام شيئاً من الموضوعية، من حيث إن قطع إمدادات النفط العربي رداً على موقف الدول الغربية المنحاز سفوراً ل”إسرائيل” في حرب أكتوبر 1973 بين العرب و”إسرائيل”، إنما في حال تفكيك هذا الاتهام سوف نجد أن الأزمة لها عوامل تفجير تتجاوز حرمان قطاع الطاقة الغربي من إمدادات البترول العربي .
أما الأزمة المالية – الاقتصادية التي ضربت الاقتصاد الأمريكي قبل أن تمتد إلى الاقتصادات الأوروبية وبقية الاقتصادات العالمية، فقد كانت نتاجاً واضحاً لجشع الرأسمالية الأمريكية التي اندفعت في مضاربات محمومة في أسواق العقار والمال والسلع والقطع الأجنبي، متسببة في فقاعات ضخمة انفجرت في نهاية المطاف في وجوه الجميع .
اليوم نشهد سيناريوهاً للنمو العالمي شبيهاً بذلك الذي حدث في عام 2007 وانتهى في سبتمبر/ أيلول 2008 بانفجار تلك الفقاعات، من حيث قيادة الطلب المتصاعد على المواد الخام والمعادن والسلع لديناميكيات هذا النمو . وكما في ظروف تشكل تلك الفقاعة، فإن ارتفاع الأسعار لا يقتصر على سلعة النفط وحدها وإنما يشمل جميع اللقائم الصناعية والمنتجات الزراعية نظراً لأن الطلب عليها هو مشترك في أسباب ارتفاع الأسعار . والسبب من جديد يعود إلى المضاربات المحمومة أكثر من تدافع الأساسيات الاقتصادية Economic fundamentals .
وبالنتيجة فإن هذا سوف يغذي محفزات التضخم وبالتالي ارتفاع الأسعار وبضمنها أسعار الغذاء . بل إن بوادر التضخم بدأت بالظهور حتى في اقتصاد ضعيف النمو مثل الاقتصاد البريطاني .
بدأت أسعار بعض السلع تتجاوز مستويات عام ،2008 بما في ذلك أسعار المنتجات الزراعية والغذائية التي ارتفعت بنسبة 37% عما كانت عليه قبل سنة . وهنالك قلق بشأن تأمين التوازن بين العرض والطلب على النفط . وكما في حالة أسعار المنتجات الزراعية والغذائية التي عكست الاختلال الحاصل بين عرضها والطلب عليها (بعض ذلك لأسباب تتعلق بالجفاف والتغيرات المناخية)، فإن ارتفاع أسعار النفط ناتج عن ارتفاع مطرد في الطلب عليه .
حاصل القول إن هنالك مؤشرات كافية، كما رأينا عاليه، تدل على أن رأسمالية المقامرة Speculative capitalism قد استعادت زمام المبادرة من جديد في أسواق السلع Commodity markets لاسيما سلع النفط والمعادن والحبوب، وأسواق المال (الأسهم والسندات) وإن التسخين العالي الوتيرة الذي أحدثته مضارباتها على هذه السلع قد أدى إلى انبعاث التضخم حتى في الدول ضعيفة النمو، فلا مناص، والحال هذه، من قيام المصارف المركزية بإعادة تفعيل أدوات السياسة المالية (رفع أسعار الفائدة) وأدوات السياسة المالية (رفع الضرائب على حركة رؤوس الأموال الساخنة المتحركة بسرعة سلسة عبر الأسواق) . وإذا لم يتم اللجوء إلى هذا العلاج، وإن كان مذاقه مراً، من كبح الاندفاعة التضخمية الجديدة، فإن سيناريو الهبوط الارتطامي للاقتصاد العالمي Hard landing شبيه بسيناريو 2008 حين حلقت أسعار الأصول في العلالي، مصير لا يمكن تفاديه.
حرر في 3 مارس 2011