المنشور

طاغية وليس مجنونا


الحديث عن جنون العقيد معمّر القذافي خطأ فادح، بل لعلّه جزء من تضليل مقصود لتبرير جرائمه النكراء والتهوين من طغيانه المستبد وإخلاء مسؤوليته عن دوره التآمري وعمالته الذليلة.

ويكفينا أن نستذكر تعامله “العقلاني” في ترتيب التسوية المكلفة لتبعات جريمة تفجير طائرة “بان أميركان” فوق قرية “لوكيربي”… وأن نستذكر بعده خضوعه الاستسلامي الذليل للشروط الأميركية لتصفية البرنامج النووي الليبي، لنكتشف أنّ القذافي لم يكن مجنونا، مثلما يوصف، بقدر ما كان همّه الأول، مثلما هو همّ أي طاغية مستبد أن يحافظ على حكمه التسلطي بأي ثمن يمكن أن تدفعه ليبيا ويتحمّله شعبها المغلوب على أمره إلى الأمس القريب والثائر اليوم ضده… وكان الهمّ الآخر لهذا الطاغية المستبد بعد أن امتد به الحكم إلى أكثر من أربعة عقود أن يؤسس سلالة حاكمة جديدة يورّث فيها “معمّر الأول” السلطة إلى ابنه وخليفته وأحفاده من بعده وذلك بدعم من الغرب الإمبريالي وبتواطؤ مع الصهيونية… وكان القذافي يعدّ العدّة جيدا لمشروع حكمه، استقرارا واستمرارا وتأييدا وتأبيدا وفق حسابات دقيقة وترتيبات محددة وصفقات خفيّة ومعلنة لا صلة لها بالجنون ولا بادعاء الجنون.

وعندما نسترجع شريط الأحداث والتطورات بدءا من “ثورة الفاتح” أو بالأحرى انقلاب الأول من سبتمبر من العام 1969، الذي أطاح عرش الملك إدريس السنوسي وأوصل القذافي إلى سدة الحكم، لا يمكن أن نقفز على حقيقة أنّ ذلك الانقلاب العسكري بقيادة النقيب معمّر القذافي قد نجح في الاستيلاء بسهولة على السلطة في ذلك البلد النفطي المترامي الأطراف على الرغم من وجود قواعد عسكرية أميركية وبريطانية في ليبيا، كان يفترض أن توفر الحماية للعرش السنوسي… وهذا ما يثير أكثر من علامة استفهام حول حقيقة علاقة القذافي بالدوائر الاستخبارية الغربية منذ أن تمّ إيفاده إلى بريطانيا في دورة عسكرية عندما كان ضابطا صغيرا مغمورا في الجيش الملكي الليبي؟… والتساؤل كذلك حول ظروف انفراد القذافي بالسلطة وتمكّنه من إقصاء زملائه الآخرين من أعضاء “مجلس قيادة الثورة”؟

ومن معمّر إلى ابنه سيف الإسلام تتكرر مقولة “رحم اللّه الحجاج عن ابنه”… فالابن في خطابه الاستفزازي يوجّه دعوة خارج السياق إلى حوار بين القتلة والضحايا يدور حول خيارين: فإما استمرار السلالة القذافية في مواقع السلطة وشرعنة هيمنتها في إطار دستوري بعلم ونشيد وطني جديدين، وإما حرب أهلية تقسّم ليبيا وتفتتها وتشيع الفوضى فيها وتوسع حمام الدم وجرائم القتل الجماعي حتى آخر طفل. وامرأة… ويا لهما من خيارين.

وأخيرا، لا بد من وقفة قصيرة أمام المقارنة القائلة إنّ ليبيا ليست مصر أو تونس، التي اعتدناها تكرارها من حكامنا العرب وإعلامهم البائس مع تغيير اسم الدولة… نعم ليبيا ليست مصر أو تونس… فليبيا دولة نفطية، ومجتمعها مجتمع قبلي، والقذافي هو عميد الحكام العرب وأقدمهم عهدا في مواقع السلطة… وبالتأكيد فإنّ نجاح الثورة الشعبية الليبية سيكون النجاح الأول لثورة شعبية في دولة نفطية عربية وفي مجتمع قبلي تقليدي لإسقاط عميد المتسلطين… ولهذا دلالاته التي تستحق التفكير والمراجعة، إذ لا عاصم لأحد.


عالم اليوم
21 فبراير 2011