لأننا نمر بمفترق طرق ، ومخاضً يقتضي الحكمة والإنصاف والتوافق، نتمنى على الجميع التجرد من الطائفية الساذجة والأحكام المسبقة والفرضيات المرتجلة قبل قراءة هذا التقرير لرؤية المشهد وفهم مجريات الأمور بدقة..
هل ما يجري اليوم محاولة لقلب الحكم استلهاماً من ثورتي مصر وتونس ؟
الجواب هو ” بكلا” ضخمة.. طيف الأمور التي يختلف عليها –وحولها- البحرينيون كثيرة ولكن شخص جلالة الملك ليس من بينها.. كل البيانات والصفحات والمدونات والتصريحات التي صدرت من حركة 14 فبراير كانت تنطق بذلك.. وفي اللقاءات الميدانية التي أجريناها كان الناس يستنجدون بالملك؛ أما الصيحات الغاضبة أو التعبيرات المنفلتة التي انطلقت عند استقبال ضحايا الاشتباكات فهي تعبيرات انفعالية لا تعبر إلا عن اللحظة ! ثم أن الغضب الشعبي ليس دوماً مرادفاً للرغبة في تغيير النظام أو استبدال الحاكم.. بل كثيرا ما يكون الغضب غضباً موجهاً لملفات ويكون الاحتجاج وسيلةً للدفع بمطالبات، لا أكثر ولا أقل..
من هم المعتصمون هذه المرة ؟
خلافاً لما تختزنه ذاكرتنا من التسعينات، وما رأيناه في السنوات الـثماني الماضية، هؤلاء المعتصمون أكبر عمراً وأكثر نضجاً وهدوءاً.. وأغلبهم – حرفيا- نساء.. ليسوا ملثمين وهوياتهم معروفة ويزودونك بأسمائهم بكل يُسر وأريحية، مصرين على أن تكون احتجاجاتهم سلمية : يقفون في هدوء على جانبي الطريق -لا وسطه- يجلسون على الأرض أو الرصيف رافعي أيديهم ما أن تقترب منهم قوات الشغب عملاً بأدبيات التظاهر في الدول المتحضرة.. لم يحرقوا إطارا واحداً ولم يكسروا إشارةً ولم يقذفوا حجراً ولم يفجروا أسطوانة غاز “رغم ما أُشيع عن سرقة شاحنة أنابيب غاز لتفجيرها” ولم يحملوا سيفاً ولا سكيناً كما روج مهندسو الفتن ” ولو كان أي مما سلف وقع لنشرت الصور في كل مكان وفي صدر كل صحيفة في اليوم التالي”.. أنهم بالفعل نوعية مختلفة من المتظاهرين: لا يحملون إلا علم البحرين ويهتفون بحبها وبفدائها بالروح والدم وأحياناً ما يصرخون ” سلمية، سلمية” لتذكير أنفسهم – والآخرين- بأن تحركاتهم سلمية ويجب أن تكون كذلك.. وهذا الأسلوب الراقي والحضاري في التعبير هو ما دعونا له جميعاً في الأعوام الماضية.. وحتى عندما تركت قوات الأمن الساحات لهم – ربما لاختبار معدنهم ونواياهم- ظلوا هادئين ولم يصعدوا الأمر ولم يقذفوا حتى محرمة ورقية على أحد..!
لماذا انفرط عقال الأمور إذن ؟
كان التواجد العسكري مكثفاً وُقوبلت التحركات بعنف شديد أرعن وهطل وابلٌ من الرصاص الانشطاري والقنابل الصوتية والمسيلة للدموع بكثافةً على الناس ما أدى لسقوط عشرات الجرحى وشهيدين في أقل من 24 ساعة ! بيد أن الأمور اختلفت جذريا في اليوم التالي: ربما لأن التعليمات في اليوم الأول كانت متشنجة توصي بقمع المتظاهرين ظناً بأن الاحتجاج ستنحى للعنف فلما تبين للأمن سلمية التحركات قرروا التهدئة.. وربما كانت التهدئة ومد الحبل على الغارب للمتظاهرين بابٌ لإقامة الحجة عليهم إن انفلتت الأمور..في الحالتين لا شك أن لخطاب جلالة الملك، وتأكيده على حق الناس في التظاهر والاعتصام وإبداء الرأي ، كان العامل الفصل في الفسحة التي أعطيت للمتظاهرين..
وما هي المطالب التي يتحدثون عنها بالضبط ؟
عن تعديلات دستورية تمنح مزيداً من الصلاحيات للشعب، وعن هيئة وطنية لها صلاحيات كاملة تفتح حواراً شاملاً للوصول لتوافق ومصالحة وطنية شاملة، ووقف التجنيس السياسي ومحاسبة المعتدين على الثروات والأملاك العامة المنهوبة وعزل كل من تثارى على حساب إفقار الشعب وقاد للطبقية وسوء توزيع الدخل بالإضافة لمطالب تدور حول تحسين الأوضاع المعيشية..
لا نعتقد أن ثمة مطلب ” شاذ وغير وطني ” بين تلك المطالب.. بالطبع يرفع البعض السقف المطالبة بنظام ملكي دستوري وبأن يكون المجلس التشريعي منتخباً بالكامل ” بما فيه الشورى” ولكن لا شيء من تلك المطالب قرآن منزل، وتستطيع السلطة الالتقاء مع المتظاهرين في نقطة فتلك ليست معركة كسر عظم كما يود البعض أن يروج..
إن كانت المطالب كذلك فلم من يطالب بها هم الشيعية إجمالاً ؟ ولماذا يبدو الأمر للناظر أنه تجاذب سني/ شيعي ؟
الطريقة الوحيدة الناجعة لضرب أي تحركات شعبية هي تجييرها طائفيا/ فئوياً/ أو عرقياً، وتلك وصفة مجربة لطالماً أجهضت في البحرين مطالبات عادلة.. لعقود طويلة مضت كانت البحرين تزهو بتعدديتها وحققت الحركة المطلبية في السبعينيات الكثير لغياب التوترات الطائفية.. وحتى في التسعينات كانت القيادات السنية من أقوى السواعد التي بنت ما نحن عليه اليوم.. أما الآن وقد تصدع الكيان الاجتماعي ودخل الشعب في ” غيبوبة طائفية” وازدهرت الأصوات تألب أبناء الجلدة الواحدة على بعضهم.. صار البعض يتوهم أن كل ما يُطالب به الآخر سينتزع منه هو.. وأن الصراع هو على المكاسب الفئوية لا المكتسبات الوطنية..في حين أن المتأمل للمطالبات سيجدها متجردة من أي صبغة مذهبية، فهي مطالب وطنية يعم خيرها الشعب كله ..
ما علاقة إيران وقطر بالأمر إذن ؟
كعلاقة بريطانيا والهند بالأمر !! خرافة تصوير الأمر وكأنه محرك من الخارج.. نشيد ” الأيدي الخفية” و ” الأجندات الخارجية” و” التمويل الصفوي” المهترئ ذاته الذي لم يثبت بدليل واحد على مدار الأعوام الماضية..!! كل االتحويلات المالية مرصودة والمكالمات الهاتفية مراقبة والتحركات واللقاءات مكشوفة والسلطة لا تعوزها الوسيلة.. لذا رجاءً فليثبت أحد وجود علاقة مباشرة بين السلطة في إيران ” المتضعضعة أصلاً والغارقة في مشاكلها وصراعاتها” وبين القوى البحرينية المذنبة لمجرد أنها تتشارك في نفس المذهب مع إيران !!
أما قطر فقنواتها ليست مفتوحة للبحرينيين وحدهم فعلام كل هذا التحامل واستقراء مؤامرات غير موجودة..!! ما نتحدث عنه هو مطالب داخلية.. لوضع داخلي.. ولا يعقل أن يُوصم كل من يطالب بحقوقه أو بالتغيير بالعميل أو الجاحد أو المخرب..!!
ولكن كل هذا التوتر مكلف اقتصادياً واجتماعيا ؟
المخاضات الوطنية والقومية والفكرية عادةً ما تكون مكلفة ولكن ” سعرها فيها” كما يقال .. علينا أن نتفق على المطالب الممكنة، والمطالب العاجلة، والمطالب المؤجلة.. الحراك السياسي بركة، الحوار الاجتماعي نعمة، لا تكرهوا شيئا وفيه خيرٌ كثير.. ودعوا الناس تعبر عن رأيها بشفافية وصراحة.. الآلاف التي خرجت ليسوا قططاً ولا وافدين ” ولو كانوا وافدين لسمعنا لهم أيضاً”، المناطق الـ17 المتفرقة التي شهدت احتجاجات ليست في تنزانيا أو بوليفيا.. كل هؤلاء مواطنون وأبناء جلدتكم ” ومنكم وفيكم” ومطالبهم هي مطالبكم ومكاسبهم هي مكاسبكم ورفاههم من رفاهكم .. وكل ما علينا هو احتواء الأمر ودراسة المطالب بإنصاف..
ولم يوم الميثاق بالذات.. لتعكير فرحة البحرين بالمناسبة ؟
الميثاق كان نقطة تحول في مسيرة البلاد.. كان فجراً ماطراً أعقب سنوات عجاف.. وهو المناسبة الأعز والأغلى على قلوب البحرينيين ولم تسبقهُ – ولم تعقبهُ- ذكرى التف حولها كل الشعب بكل حب ووئام.. بالمناسبة: كنت عصراً من بين من تشرفوا بحضور الاحتفال بذكرى الميثاق بحضور جلالة الملك وكنت مع المتظاهرين في المشفى ليلاً لأقول : أننا أكثر من فخورين وسعداء بالميثاق وذكراه.. ولكننا ندعم حق الناس في المطالبة بالمزيد من الإصلاحات.. وهذا ما أراده الناس، فالميثاق نقلنا – قبل 10 سنوات- من دولة قمعية لدولة عصرية وربما تنقلنا الذكرى ذاتها لنكون دولة مكتملة الديمقراطية..
بمفترق طرق ، ومخاضً يقتضي ولكن ليس كل الشعب مقتنع بتلك المطالب ؟ أو بأسلوب التعبير عنها ؟
من حقهم .. من حق كل فرد أن يكون له وجهة نظر خاصة في صيرورة الأمور ومن حقه علينا أن نحترم فكره.. من خرج للطرقات يصفق ويهلل حاملاً علم البحرين من حقه أن يعتقد أن ما تحقق منتهى آماله.. ومن خرج حاملاً علم البحرين وهاتفاً باسمها ويطالب بالمزيد من حقه أن يعبر عن رأيه .. ليس ثمة مجتمعٌ ألتف على رأي واحد المهم هو سيادة لغة الاحترام وعدم تسفيه أو تشويه جهة ، من خرجوا متظاهرين ليسوا فوضويين ولا عملاء ولا مثيري للفتن.. ومن خرجوا يهللون ويحملون صور القيادة ليسوا منافقين ومتمصلحين ومتسلقين.. كل إنسان له زاويته في النظر للأمور التي يجب أن تحترم وكما قال فولتير ” أخالفك الرأي لكني مستعد للموت في سبيل أن تقول أنت رأيك”
وماذا بعد ؟
قبل عشر سنوات لم يكن ما يقال بمختلف عن ما يقال اليوم، ولا نريد أن نحرج بعض الزملاء المخضرمين ونذكرهم بما كانوا يطنطنون به قبل المشروع الإصلاحي وكيف كانوا يروجون لأن الديمقراطية فكرة دخيلة لا تتناسب والحالة البحرينية وأن المطالبة بالبرلمان شطحة حالمين..هؤلاء – ذاتهم- غيروا نبرتهم بعد انبلاج المشروع الإصلاحي بيوم واحد وعشنا جميعا الحلم.. اعتقد أن ما نحاول قوله أن ما يبدو ضخماً وغير قابل للترجمة غير عسير على الله ولا على مليكنا..
مبادرة جلالة الملك يوم امس بتشكيل لجنة تحقيق وما أظهره من اهتمام أمرٌ مبشر.. تغير سياسة ونبرة الداخلية والسماح للشباب بالتجمهر من ظهر أمس أمرٌ مبشر.. وعي شبابنا وذكاء رجالاتنا في إدارة الموقف ومساهمة نساءنا أمر مبشر.. الوطن كبير ويسعنا جميعا، والغد أجمل فلا تخشوا التغيير والتحولات ولا تسمعوا لأرباب الفتن..
والله – وحده- من وراء القصد
موقع لميس
16 فبراير 2011