الكاتب عادل حبـه
كاتب عراقي
على أهمية ثورة الشعب التونسي الشجاع التي أطاحت بالطغيان في 11 يناير/ كانون الثاني الديمقراطية، فإن ثورة المصريين الديمقراطية وما نتج عنها من الإطاحة بطاغية آخر في 11 فبراير/شباط لها طعم خاص وتأثيرات تاريخية على الوضع السياسي في مصر وجميع البلدان العربية والمنطقة. فمصر وشعبها الشجاع له مكانة خاصة في قلوب ووجدان العرب وغير العرب لحضارته العريقة وتاريخه وأدبه وفنه الذي ترك آثاراً بارزة على جوانب الحياة في البلدان العربية.
من أجل الديمقراطية والحرية
ثورة مصر تتميز بالفرادة في تاريخ الشعب المصري. فهي ريادية في توقيتها وفي مفرداتها واسلوبها وتطوراتها. ثورة صعب على المحللين التنبؤ بها ظناً منهم بأنه قد تم تدجين هذا الشعب الكريم. إنها ثورة أثارت العجب والدهشة لكل من تابعها لكونها تميزت بطابعها الشعبي وبإسلوبها السلمي وبعيداً عن البنادق والمتفجرات وانضباطها وتخطيطها الرفيعين، بالرغم من غياب القيادة الواضحة لها. لقد أطاحت الثورة وفي زمن قباسي وفي خلال أسبوعين بنظام استبدادي ظن الكثيرون أنه ذو حصانة ضد كل أعاصير الزمن، إسبوعان لم يشهد الشعب المصري فيها الفتن بين المسلمين والأقباط ولا فلول الانتحاريين المتطرفين.
فقد كان النظام السابق المنهار يسن قوانين تزدري وتستخف بإرادة هذا الشعب وتهمشه، قوانين تتناسب مع قوام رموزه. وأصبح تزوير الانتخابات والفوز بنسب عالية من مقاعد البرلمان سمة دائمة ومفضلة لأقطاب النظام. وراح طاقم النظام يحتكر كل موارد الدولة لصالح نخب عائلية فاقدة الأهلية والكفاءة تقوم بنهب مفضوح وعلى رؤوس الأشهاد للمال العام. وتحول الحاكم ورموزه إلى إله وتاجر ورأسمالي ومحتكر لقوت الشعب. كما تحولت الوزارات إلى نوادي للعائلة الحاكمة وعوائل مريديها من الأميين، ومؤسسات نهب لرجال الأعمال ولتقديم المكافئات واشاعة الفساد بدلاً من أن تكون مؤسسات تدار من قبل ذوي الكفاءات وقادرة على حل المشاكل التي يعاني منها الشعب المصري وخادمة له.
وهكذا تحولت الدولة المصرية إلى دولة شخص بمفرده تنهار وتتصدع بعد كل انهيار وتصدع أو حتى عارضة مرضية لهذا الشخص تماماً كما حدث عندنا في العراق. وشكلت هذه النخبة الحاكمة في مصر حزباً بلغ عدد أعضائه الملايين، ولكنه بدا هشاً وغير قادر حتى على الدفاع عن النظام في أزمته الأخيرة. فقد بلغ عدد أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي الذي حكم مصر لمدة تزيد على أربعة عقود ثلاثة ملايين عضو في الأيام الأخيرة من حكم مبارك، ولكنه لم يستطع تنظيم ولو تظاهرة صغيرة لدعم النظام في أوج ثورة الشعب المصري، باستثناء تلك العصابة المدفوعة الثمن التي ركبت الجمال والبغال والجياد والحمير لتهاجم المتظاهرين العزل ظناً منها أنها تستطيع لّي وتطويع إرادة الشعب المصري. حزب تهافت أقطابه بعد لحظة إعلان مبارك تنحيه عن الحكم إلى تقديم استقالاتهم وتمزيق بطاقات عضويتهم.
لقد عمد هذا الحكم المعزول عن الشعب وغير القادر على معالجة الاحتقان الاجتماعي والاقتصادي إلى البطش والبلطجة كوسيلة وحيدة للاحتفاظ بكرسيه. وأسس أجهزة أمنية لا تهدف إلى حماية المواطن المصري بل لقمع أية بادرة للاحتجاج على الوضع المأساوي لشعب يعيش أكثر من مليون منه في القاهرة وحدها في المقابر و”التُرب”. فلم يكتف النظام بالشرطة المصرية العلنية والسرية التي تناهز المليون، فبادر إلى تأسيس الأمن المركزي من 300 ألف فرد ليصبح القوة المرعبة الضاربة للنظام لقمع أية احتجاجات شعبية. كما لم يتردد النظام المصري المنهار بالاستعانة بفرق البلطجية المدفوعة الثمن لتفريق المعارضين للحكم أو لتزوير إرادة الشعب المصري في الانتخابات الصورية التي كان يجريها.
لقد استعان هذا النظام في بداية عهده بالقوى الظلامية وقوى التطرف الديني كي يردع ويحد من نفوذ قوى التنوير والحداثة والديمقراطية المطالبة بدولة القانون واحترام الحريات العامة والحقوق الديمقراطية وضمان سلطة الشعب. وهكذا كان النظام أول من بادر إلى دعم التطرف الديني ومدّه بالإمكانيات كي يخوض ” الجهاد” في أفغانستان. إن معاداة الديمقراطية ومعاداة الفكر الديمقراطي الحر التي مارسها الحكم في مصر، والنهج الاقتصادي والاجتماعي الضار لحكام مصر خلال أكثر من ثلاثة عقود حوّل مصر إلى حاضنة لقوى الظلام والإرهاب والجهل. وأخذت تصدر إلى العرب والعالم نماذج غريبة من أمثال أيمن الظواهري وأبو حفصة المصري والقرضاوي وعمر عبد الرحمن الذين لا يفهمون من الدين سوى التخلف والقتل واستباحة أموال وأعراض الناس في مصر وخارجها. لقد كانت مصر قبل هذه الموجة الظلامية مصدر اشعاع فكري تنويري ديمقراطي قدمت للإنسانية رجالاً من أمثال طه حسين ومحمد عبده وقاسم أمين وسلامة موسى وعبد الرحمن بدوي ونجيب محفوظ وعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم والمئات من المفكرين والفلاسفة. ولكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر عندما اشتد عود هذه التيارات المتطرفة لتتحول إلى وبال على مصر والعالم وعلى الحُكم نفسه. كل ذلك بفضل بركات هذا النظام المنهار.
إن هذا النظام لم يقرأ ويتفحص مشاكل مصر، وجملة المتغيرات التي طرأت على مصر وعلى جيله الجديد الذي يشكل ثلث السكان. هذا الجيل الجديد الذي يتبنى منظومة قيمية ديمقراطية حديثة وتطلعات وأحلام تختلف عن تلك التي حلم بها الجيل السابق. إنه جيل قرأ بدقة المتغيرات في مجتمعه وفي محيطه العربي وما طرأ من تحولات جذرية في محيطه العالمي.. لقد كانت النخبة الحاكمة غارقة في سبات السطو على المال العام واللهاث وراء الامتيازات وبعيدة عن هموم الشعب المصري الذي يعيش أكثر من 40% منه تحت خط الفقر. وكان النظام ينظر إلى أبناء مصر كرعاع وعبيد لا يستحقون ممارسة الديمقراطية على حد تعبير عمر سليمان نائب الرئيس مبارك في أوج ثورة مصر الأخيرة. وهذا النظام لا يفكر ولا يخطط للشعب في مصر ولا حتى للشعوب العربية سوى أنظمة استبدادية. ولقد قالها حسني مبارك في حديث تلفزيوني صراحة عندما تطرق إلى الوضع في العراق حيث لم ير أي مخرج من الارهاب الدموي الذي يتعرض له العراقيون سوى تسلط ديكتاتور ليحكمهم. فهذا النظام لعب دوراً تنظيرياً خطيراً منذ عقود في تكريس مفهوم الاستبداد ومعاداة الديمقراطية والحياة الحزبية السليمة في مصر والعالم العربي ومنذ ثورة يوليو عام 1952 ، ووأد الديمقراطية في سوريا تحت لافتة الوحدة الاندماجية والترويج لكل سلطة متجبرة والعداء ضد كل نزوع ديمقراطي في عالمنا العربي.
إلا أن شابات مصر وشبابها الشجعان فاجأوا العرب والعالم بثورتهم الفريدة بعد أن ظن الجميع أن شعب مصر قد تم تطويعه وتدجينه، وأضحى في سبات. إن تراكم القهر والحرمان لدى الشعب وما رافقه من إيغال النظام في سياسته المدمرة، خلقا وعياً جديداً لدى جيل الشباب الذي يتمتع بالقدرة على تلمس الطريق السلمي نحو إنجاز هذا العرس الدسمقراطس العظيم في تاريخ مصر. ان هؤلاء الشباب ذوي العقلية المتحضرة و الثقافة السياسية والمهارة العالية في إدارة هذه الثورة المجيدة، قد حولوا شعب مصر خلال أيام معدودة على حد تعبير عمار الشريعي الموسيقار المصري المعروف وفي ندوة تلفزيونية أخيراً “من كلاب وعبيد إلى أوادم”!!. إن هؤلاء الشباب أدركوا أنه بدون حرية وديمقراطية لا يمكن الحديث عن البناء واستقلال البلاد، ولهذا ولأول مرة في تاريخ العرب رفعوا شعار الديمقراطية لثورتهم بعد أن كان الشعار الأول لكل الثورات والهبات الشعبية السابقة يركز على الاستقلال الوطني ومواجهة التدخل الأجنبي الذي ما لبث أن تحول إلى شعارات تمجيد وتأليه “الزعيم” التاريخي وحتى الترويج لطغيانه بذريعة مزيفة وكاذبة من “مواجهته للاستعمار والإمبريالية”. لقد سحب هؤلاء الشباب البساط وبكفاءة عالية من تحت هذا الحكم المتجبر والمتغطرس، تماماً كما سحبوا البساط من تحت القوى السياسية التي ابتعدت عن نبض الشارع المصري وهمومه وأضاعت الحلقة الأساسية في بناء بلد حديث وعصري متطور الا وهو مطلب الديمقراطية. كما انهم سحبوا البساط من تحت القوى التقليدية التي أرادت ركوب موجة التغيير الديمقراطية العارمة التي شهدتها مصر. فالأخوان المسلمون الذين روجوا لسنوات طوال موضوعة الاستبداد الدينية تحت شعار “حكم الله” و “الدولة الإسلامية” التي كان أصحابه أول من فتح باب الحوار مع دولة الطغيان. ولم يجد لهؤلاء موقعاً مؤثراً في هذه الموجة الشبابية التي تصر على قيام دولة ديمقراطية حديثة في مصر لا دولة استبدادية تحت أية واجهة دينية أم غير دينية.
وسرعان ما تركت الثورة المصرية منذ اندلاع شرارتها الأولى آثارها على ضمير الشعوب العربية وعلى دول المنطقة عموماً. فشعوبنا التي سلبت حقوقها وإرادتها لعقود تدرك أن ثورة مصر لابد أن تحدث انعطافة جدية في مسار تحقيق أحلام شعوبنا في ارساء أنظمة قائمة على القانون، أنظمة عصرية حديثة تعتمد على الديمقراطية وتأمين الحريات العامة في دول المنطقة وبشكل سريع وقد يفوق توقعات المحللين. فمنذ اللحظات الأولى لثورة مصر المجيدة بدأ الشارع العربي يتململ ويتحرك ضد الأنظمة البالية. في حين التزم فرسان الاستبداد العربي بعد سقوط النظام الصمت بعد أن جاهدوا في الأيام الأولى من الثورة إلى الدفاع عن طاغية مصر. وراح البعض منهم يتسابق في زيادة الرواتب وتقديم “الرشاوي” لشعوبهم كي يتجنبوا مصير طغاة تونس ومصر. فلا يستطيع مروجو الاستبداد في العالم العربي ودول المنطقة أن يتجاهلوا نسيم الديمقراطية والحرية وينأوا ببلدانهم عن هذا النسيم المنعش. ومن الهراء والغباء أن يظل حكامنا متمسكون بموضوعات الاستبداد ومعاداة الحرية والديمقراطية، فقطارها قادم ونسيمها سيهب ويزيل كوابيس الاستبداد والفساد والنهب الذي تمارسه هذه الأنظمة البالية. شعوبنا على شفى تغيير قادم، فلا محالة من ذلك خاصة وأن مصر قد دخلت بكل ثقلها في مسار التغيير الديمقراطي. فلم يعد من المعقول أن ندخل قرن الانترنت واليوتيوب في ظل صدور الفتاوى الغريبة من رجال الدين وهلوستهم وتلاعبهم بالمشاعر البريئة للمواطن عن طريق منع الجلوس على الكراسي، واضطهاد المرأة ومنعها حتى من استخدام السيارات في بعض دول الخليج، أو توزيع ثروة البلاد على أعضاء العائلة المالكة والأمراء والسلاطين وتعيين الوزارات بقرار ملكي سلطاني دون الرجوع إلى الشعب وبدون أي مجوز قانوني. كما أنه من المعيب وفي قرننا الواحد والعشرين أن يعين الأمراء وزراء ومسؤولين في حين يحرم الشعب من تولي المسؤولية واختيار المسؤولين أو نواب في برلمانات منتخبة بشكل حر. ومن المعيب أن تتحول الجمهوريات في العالم العربي إلى أنظمة أكثر بطشاً من الأنظمة الملكية، ومن غير المقبول أن تصرف هذه الأنظمة الملايين على أجهزة قمع المواطنين أو تلحين الأغاني والأناشيد ونشر النصب والتصاوير كبيرة الحجم للحكام في كل شوارع ومدن بلداننا بدلاً من صرف هذه الأموال على بناء المدارس والمستشفيات وتقديم الخدمات العامة لأصحاب البلد. إن هؤلاء الحكام يعيشون في عصر غابر متخلف غير عصرنا الذي يتميز بالشفافية وهذه الموجة العارمة من الديمقراطية التي أطاحت بأنظمة جبارة في العالم.
إن ثورة مصر هي أيضاً ناقوس خطر لمن يتصدر المشهد السياسي العراقي ولمن يحاول تشويه العملية السياسية وتقيييد الحريات في البلاد. فالشعب العراقي استقبل سقوط طاغية بغداد بأمل إرساء بديل نقيض للنظام السابق وتحقيق ديمقراطية راسخة وحل المشاكل الخطيرة التي تواجه البلاد. إلاّ أن هناك قوى بعينها لا ترى في الديمقراطية الوليدة في العراق إلاّ وسيلة لفرض منهج استبدادي وبغلاف ديني مذهبي وطائفي على العراقيين. إن هذه القوى تسعى وبشكل محموم إلى تشويه العملية الديمقراطية الوليدة وحرفها عن مسارها لغرض فرض هيمنتها على البلاد والتلاعب بثرواتها. فالتوارث العائلي في بعض الأحزاب السياسية العراقية يتعارض مع أبسط معايير الديمقراطية التي ينشدها الشعب. كما إن احتفاظ بعض الأحزاب السياسية، وهي التي تساهم في السلطة الآن بميليشيات مسلحة وأجهزة أمنية خارج سيطرة الدولة، يلحق أشد الأضرار بالعملية السياسية الديمقراطية ويهددها وينذر بمسقبل استبدادي للعراق. كما إن المبالغة في نشر تصاوير قادة الأحزاب هو مسعى فاسد لتأليه الزعيم وتهميش دور المواطن ومسعى للعودة إلى الحاكم الجائر المستبد ويتعارض مع قيم الديمقراطية. كما أن الاستعانة بوزراء ومسؤولين أميين فاشلين في المحافظات ليس في مقدورهم حل المشاكل البالغة التعقيد في توفير الخدمات بدلاً من الاستعانة بالحكماء ومن ذوي البصيرة والخبرة والنزاهة ومن التكنوقراط من الذين لديهم القدرة على حل هذه المشاكل. فتشكيل الوزارة الحالية التي ينخرها الصراع على المناصب والقائمة على التأطير الطائفي والعرقي سوف لا يحل أي من المشاكل التي يعاني منها المواطن العراقي، وما على النخب السياسية من حل سوى الاستعانة بالنخب الخيرة من أهل الخبرة والنزاهة بدل المحاصصين الحاليين الذين يسعون حتى إلى تجاهل الدستور ونقضه من أجل حفنة من المناصب والفرص الشخصية. لقد مرت سبع سنوات هي كافية للدلالة على فشل الجهلة حتى في تنظيف شوارع المدن العراقية أو حل مشكلة المجاري، فكيف لهم القدرة على إدارة دولة معقدة كالدولة العراقية. إن النزعة التي تهيمن على عقلية الكثير من المتصدرين للمشهد السياسي لا تؤدي إلاّ إلى نشر الفساد وعرقلة بناء البلد وتعطيل العملية الديمقراطية. فالعراق في أمس الحاجة إلى من يسعى حقاً إلى تكريس مفاهيم الحرية والديمقراطية، إلى من يدرك طريق بناء هذا البلد المخرب مادياً وروحياً، إلى أناس ذوي مستوى ثقافي وعلمي يصلح نفوس هذا الشعب الذي دمرته أعاصير الاستبداد. فالشعب لا يحتاج إلى متاجرين بالمذهب والدين واستغلال الطقوس الدينية المقدسة لأغراض سياسية وطائفية لا تؤدي إلاّ إلى زرع الفتن والشقاق بين مكونات الشعب العراقي، وتوفر الفرص لفرسان الإرهاب للإيغال بقتل العراقيين واستباحة دمهم.
إن ثورة مصر الديمقراطية ستهب بنسيمها وعبرها ودروسها على العراقيين لتلهم الحكمة والاختيار الناجح للمسؤولين في إدارة البلاد وإيصالها إلى بر الأمان والسلام والبناء، تماماً كما سيهب نسيمها على قلاع الاستبداد المشين في عالمنا العربي والإسلامي ليهدها كي تساهم شعوبنا في ركب الحضارة الانسانية.
11/2/2011