أعطى العصرُ الحديثُ إمكانات كبيرة للبنان كي يتحرر وينفصل بذاته عن استبدادية الشرق الملاصق له، ففرنسا مؤسسة الحداثة الغربية النضالية هي راعيته، وغذت فيه الثقافة الحديثة عبر المؤسسات التجارية التصديرية الاستيرادية، وكان الموارنة – برجوازية لبنان – هم الوكلاء، ومنذ القرن التاسع عشر تدفقت سيول هذه الثقافة التنويرية الأدبية، لكن بقيت في طابعها الثقافي العام غير قادرة على تكوين ثقافة وطنية توحيدية.
فإنتاجُ الثقافةِ من خلال الطائفةِ بشكلٍ استيرادي يجلبُ مفاهيمَ المصدر، وحتى هنا حين قام الموارنة بجلب الثقافة الفرنسية التحديثية حجّموها في مفاهيم نهضويةٍ مجردةٍ غيرِ قادرةٍ على النقد النضالي للطائفية وإنتاج ثقافة ديمقراطية علمانية، فقادَ هذا الطوائفَ الأخرى لجلبِ ثقافات طائفية من مصادر أخرى.
فواجه لبنان ثقافةً تابعةً للحداثة الشكلية الغربية، وهيمنة دينية إقطاعية شرقية كبرى متعددة الأشكال. سياسياً تجسد ذلك في ظهور حزب (الكتائب) بشكل فاشي، مستوحياً نموذجه من أسبانيا فرانكو، وليس من ثقافة هدم الباستيل الفرنسي، مما أكد جذور الإقطاع الماروني العسكري أكثر من انفتاح الحداثة الديمقراطي، ووضح عدم قدرة البرجوازية الطائفية على إيجاد ثقافةٍ وطنية ديمقراطية، وهذا قادَ المسلمين إلى بعثِ النماذج الدكتاتورية السياسية لطوائفِهم المختلفة، وهم يقبعون كذلك في الإرث الاجتماعي التقليدي.
وذلك يتشكلُ عسكرياً بطابع المليشيا التابعة للحزب الشمولي.
إن كل طائفة حسب هذا التطور تصعدُ دكتاتوريتَها الخاصة، حسب تدفق الثراء داخل قياداتها، وعلاقتها بطرف عالمي مهيمن، وعلاقتها بطرفٍ عربي إسلامي ناهض أو موسع لسيطرته. فيغدو لبنان صدى للخارج، وداخلهُ يمورُ بحركةٍ غير منتجة مؤسسة.
أحجام الطوائف مهمة وتحالفاتها مهمة كذلك، وأيضاً دور القيادات الارستقراطية والإقطاعية وشبه البرجوازية المهيمنة واتجاهاتها في الحقول الوطنية والمناطقية والعالمية:
(ويُقدر عدد المسلمين ككل في لبنان بـ (59,7%) من أجمالي عدد السكان، والسنة تقدر نسبتهم ب(27%) من السكان، في حين تقدر نسبة الشيعة بـ (41%)، والدروز (7%)، أما الطوائف المسيحية فتشكلُ ما نسبته (39%)، أكبرها طائفة الموارنة (16%) من السكان، وهناك طوائف مسيحية أخرى أصغر حجماً، كالكاثوليك اليونانيين، والرومانيين (1%) والأرثوذكس (5%) واليعاقبة والنسطوريين).
ففيما كانت الهيمنة الغربية تواجه انحساراً مؤقتاً خلال نهوض الشرق التحرري صعدتْ القوى القومية العربية في سوريا ومصر والعراق وغيرها من الدول العربية، صانعةً نموذجَ رأسماليةِ الدولةِ الوطنية الاستبدادية، وهو شكل يؤكدُ ضعفَ السوق الحر والقوى الوسطى وهيمنة قوى وسطية هامشية خاصة الضباط الكبار، فتمددتْ على لبنان وتصارعت فيه واصطدمت بنموذجه الليبرالي المتغرب.
تواجه هذا الصراع بين النموذج الليبرالي الغربي التابع، ونموذج الشرق العربي التحرري الشمولي، ولم يكن لبنان قادراً على الانحياز لكلا الشكلين من التطور، فتلك دول عربية كبيرة موحدة قادرة على إنتاجِ الدولةِ المركزية، فيما لبنان ليس بمستوى ذلك، كما أنه غيرُ قادرٍ على إنتاجِ نموذجِ الغرب الديمقراطي التحديثي العلماني من جهة أخرى، فأكتوى صراعاً وناراً بين الجهتين.
كان لابد للمسلمين من الانحياز ضد النموذج الغربي التحديثي الديمقراطي التابع، في أثناء صعود نماذج الدول الوطنية الشمولية، فأدى عددهم الكبير ونشاطهم من تحجيم المحور الآخر لكن من دون القدرة على هزيمته، ومن دون القدرة على إنتاج نموذج وطني ديمقراطي توحيدي من جهةٍ أخرى، فبقيت الطوائفُ في اختلافها وصراعاتها، وبقيت قواعدُها وقممها المفتتة غير الملتحمة طبقياً.
تغدو التحالفات والمفارقات نتاجاً لحراك طائفي داخلي، فالقيادة المارونية الغنية ذات الشعار الغربي وجدت نفسها في صعود الغرب ونزوله، فيما صعد المسلمون مع نمو الدول العربية والإسلامية، عبر حراك طوائفهم وظروفها وصراعاتها كذلك والتي سوف تصل لاحقاً إلى مستويات كارثية.
صحيفة اخبار الخليج
14 فبراير 2011