المنشور

جذور الصراع الطائفي اللبناني (1)

جغرافية لبنان الجبلية العالية وتشكل مدنه وراء هذه الجبال الحارسة الصادة لهيمنة ملوك الشرق وأباطرته الباذخين السرمديين، هي التي أعطتْ مدنَهُ وأريافه إمكانيات أن تكون لها رؤوسٌ عالية، وأرادةٌ نضالية، حين جمعت هذه المدن بين الأسوار وروح النضال وعقلية البحث والتجارة.
ولكن الحرية غير مكتملة لأن المدن على مرمى حجر من حكام الشرق، كما أن هؤلاء قادرين على التسلل بين الجبال وحرق المدن أو الإستيلاء عليها.
ولهذا كان لبنان وما يقاربه من سوريا هو أرضُ المنفيين، والمهاجرين المعذبين، والتجار المغامرين، ولم تفلح ثورتهُ الفكريةُ الديمقراطية داخله وإنتقلتْ لبلاد الأغريق حيث الإتساع الكبير والحماية الجغرافية المنيعة.
فاضتْ عليه الدياناتُ والأمبراطورياتُ المسيحية والإسلامية، وجاءه المعذبون والمناضلون الذين فشلوا في نضالاتهم، والموظفون الحاكمون مندوبو الدول، فتكونت فيه فسيفساءٌ دينيةٌ مذهبية إجتماعية، من موظفي الخلفاء الراشدين إلى حكام الخلافات الاستغلالية في العهود التالية. من قادة يرسلهم عمر بن الخطاب إلى القبيلة العربية المهزومة بعد حرب صفين، وزُرعت فيه كلماتُ المنفي المناضل أبوذر الغفاري وقوى الحلم الإسلامي بالعدل وأصطفت إلى جانب المعذبين المسيحيين الهاربين من الاضطهاد.
لم تعد المدن التجارية الموانئ المزدهرة هي فقط ما ينتجه العربُ المسيحيون والمسلمون بل الأرياف المزدهرة والمحمية بالأحراش وغابات الأرز التي صارت عنواناً للحماية وشموخاً وإختباءً.
زرعتْ فيه الدولُ الاستغلالية الأحقادَ الدينية والشكوك، فكلما جاءت قوةٌ مهيمنة قتلتْ أصحابَ العقائد الأخرى، ونفختْ في عقيدتها بالأجهزة وموظفي الخراج مصاصي الدماء.
في القرون الحديثة غدت هذه الفسيفساء الدينية الطائفية ساحات للشطرنج السياسي، فالإقطاع الزراعي ومادته الخام المستغلة الفلاحون، هو الرقعةُ الكبرى التي تجري فوقها خيولُ المصالح، وكل إمبراطورية تتقدم بمجموعة من البيادق الاجتماعية السياسية، الأمبراطورية العثمانية ختام الحكم الإقطاعي أخذت تواجه تمرد الفلاحين المُحرَّضين من قبل الغزو الغربي الإستعماري، وشكلَّ هذا التغلغل الغربي أدواته من خلال الثقافة الدينية السياسية فحافظ على الإقطاع الديني السياسي كواجهةٍ زائفة للحضارة الأوربية المسيطرة، وجعل الدين الإسلامي بمذاهبه أكسسورات مكملة للسيطرة العليا المارونية.
السنة في نموهم المدني، والشيعة بكدحهم الفلاحي، يقدمون البضائعَ للتاجر الماروني، كوكيل للاستعمار الفرنسي، لكن المسلمين من خلال توالدهم الكثيف، وحراك منطقتهم التي يسيطرون عليها، وصراعهم مع اليهودية، راحوا يغيرون الثالوث اللبناني أو يسقطونه فوق رؤوسهم.
هذا الظرف المنوع المتصارع مكن الاستعمار الفرنسي من تشكيل دولة طائفية يرأسها الموارنة، وتتدرج في سلمها الاجتماعي السياسي المتصارع الملتبس بين الطوائف الإسلامية والطوائف الأخرى.

صحيفة اخبار الخليج
13 فبراير 2011