لم يلخص مشهد محاولة اقتحام ميدان التحرير يوم الأربعاء الماضي بالأحصنة والجِمال والبغال -في بعض الروايات- ثم قنابل «المولوتوف» لاحقاً، الوضع السياسي الراهن في مصر فحسب، لكنه لخص أيضاً الوضع الاقتصادي في بلد الـ80 مليوناً، حيث يعيش نصفهم تحت خط الفقر.
لم تكن «غزوة الجِمال» – كما اصطلح على تسميتها إعلامياً- مجرد فصل في صراع بين نظام سياسي متشبث ببقائه تحت دعاوى «الشرعية الدستورية» ومحتجين ومعتصمين في الميدان وغيره في أنحاء البلاد يطالبون بعهد جديد لن يخرج إلى النور إلا على أنقاض النظام القائم، ولكنها أيضاً تكشف خبايا الوضع الاقتصادي في بلد لا تنقصه الموارد ولا الإمكانات لانتشال سكانه من براثن الفقر.
«البلطجة»، وإساءة استخدام النفوذ والتزاوج – غير الشرعي- بين المال والسلطة سمات عانى منها الاقتصاد المصري كثيراً على مدار عقود. والأمثلة بلاحصر: كم هي مساحات أراضي الدولة التي اغتصبها «بلطجية» بقوة السلاح ثم آلت إليهم ملكيتها لاحقاً بأبخس الأسعار، وبلا ثمن أحياناً، تحت مسمى «قانون وضع اليد».
لمن لا يعرف الإجابة عليه الذهاب إلى طريق القاهرة – الإسكندرية الصحراوي الذي يمتد لأكثر من 200 كيلومتر، ولا يوجد على جانبيه «شبر» واحد لم يغتصبه رجال أعمال أو أصحاب نفوذ مدعومون بـ«بلطجية» مسلحين. كم من معركة حربية، سقط خلالها ضحايا، وقعت بين أطراف متصارعة على أراضٍ تملكها الدولة أصلاً، وكم من مشاهير في السياسة والفن والمجتمع تورطوا في اغتصاب ممتلكات الشعب تحت سمع وبصر الحكومات المتعاقبة خلال العقود الماضية من دون أن يحرك المسؤولون ساكناً.
وليس هذا هو المثال الوحيد، بل أين ذهبت أغلب أراضي سيناء، ووادي النطرون، والظهير الصحراوي لكل محافظات الصعيد؟
ليس هذا فحسب، إذ روى لي صديق كيف أنه صدق دعاوى حكومية ووضع كل مدخراته في قطعة أرض بسيناء لاستصلاحها وزراعتها، وكيف أنه أٌجبر على دفع رشى و«إتاوات» شهرية لعصابات ادعت ملكيتها لهذه الأرض رغم أنه اشتراها بعقود رسمية من هيئة حكومية، وكيف أن هذه العصابات فاوضته على إعادة شرائها منهم مرة أخرى –كغيره ممن تعاقدوا مع الحكومة- حتى يتركوه في حال سبيله، وكانت النهاية أنه تخلص من هذه الأرض وباعها لمن يستطيع حمايتها –على حد تعبيره- راضياً بما تعرض له من خسارة.
في مقالي السابق قلت إن للثورة الشعبية العارمة التي اجتاحت أركان البلاد فاتورة ضخمة تدفعها مصر الآن، ولكنها فاتورة واجبة، بعد عقود طويلة من محاولات الإصلاح البطيء الذي أثبت عدم جدواه، بدليل خروج هذه الحشود الهائلة إلى الشوارع تطالب بالتغيير، ومهما بلغت قيمة هذه الفاتورة، فهي لا تقارن بالأموال المهدرة المقدرة بعشرات مليارات الدولارات التي تخسرها البلاد سنوياً من جراء تفشي الفساد والمحسوبية وتزاوج المال بالسلطة، وتهرب رجال أعمال كبار من الضرائب، وبيع أراضي الدولة بأسعار يثير تدنيها وانخفاضها الدهشة.
نعم إن للإصلاح ثمناً، وفي اعتقادي أن البلاد دفعته بالفعل، بل إن هذا الثمن جاء أقل من أكثر التوقعات تشاؤماً، ووفقاً لما يمكن القياس عليه حتى كتابة هذه السطور، تراجع الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي خلال يومي عمل أي بعد استئناف النشاط، بنسبة 1.7 بالمئة فقط، مخالفاً توقعات كانت تؤكد أنه سيتعرض لضغوط هائلة من جراء قيام مستثمرين أجانب وعرب ومصريين بتحويل أموالهم إلى الخارج، وهو ما لم يحدث، كما أن التقارير المعلنة من البنوك الرئيسة لم تكشف عن عمليات سحب للأرصدة أكثر من المعتاد، والأكثر من ذلك أن رئيس بنك الإسكندرية ذكر أن صافي تعاملات الفرع الرئيس للبنك كانت 4 ملايين جنيه ودائع (فوائض) أول من أمس الأحد، وبعد أسبوع كامل من تعطيل عمل البنوك.
لا أحاول التهوين من حجم الخسائر الناجمة عن اندلاع هذه الثورة الشعبية، فهي فاتورة ضخمة دفعها ملايين المصريين وتأثر بها -للأسف- الأكثر فقراً، فيما لم يهتز للأغنياء جفن، إلا إذا كان التوقف مؤقتاً عن تضخيم حساباتهم المصرفية بمزيد من الملايين يومياً يعد خسارة. هناك 17 مليون مصري «على باب الله» أي عمال يومية يتكسبون رزقهم من العمل يوماً بيوم، وهؤلاء إذا تعطل أحدهم لا يجد ما يسد به رمقه هو أو من يعيله في نهاية اليوم، هؤلاء من دفع الثمن وليس غيرهم، كصديقي مدير الاستثمار في إحدى الشركات الذي تحدثت عنه في مقالي السابق، أو كسيدة الأعمال التي تمتلك شركة ملاحية وكادت في محادثة هاتفية معي أن تتهمني بالعمالة والخيانة وأنني من آكلي «الكنتاكي» المعتصمين في ميدان التحرير ممن يملكون «أجندات أجنبية» هدفها تخريب مصر، كما تقول. إن للإصلاح ثمناً.. ألا يعرِّض المريض حياته للخطر عندما يقوم بإجراء عملية جراحية خطرة لاستئصال ورم أصاب جسمه بالوهن؟ ألا ينطبق ذلك على الوضع الحالي في مصر؟
أليس للحرية ثمن؟ أليست الحرية والديمقراطية شرطين مهمين لتفعيل آليات السوق، في بلد ادعى مسؤولوه على مدى عقود أنهم ودعوا عهود الاشتراكية إلى غير رجعة مفضلين السوق الحرة؟ كيف نطالب العمال بزيادة الإنتاج والموظفين بالإبداع والتفاني وهم في بلد تحكمه الواسطة والمحسوبية ويصعد فيه المنافقون لتسيد الصفوف الأولى في المشهد الاقتصادي والسياسي والإعلامي ويصبحون نجوماً مع أنهم بلا موهبة وبلا قدرة على الإبداع؟
إن من سيروا الجمال والأحصنة وعربات «الكارو» التي تشدها الحمير إلى ميدان التحرير يسعون إلى الحفاظ على مصالحهم عبر الإبقاء على النظامين السياسي والاقتصادي القائمين في مواجهة تيار التغيير والإصلاح العارم الذي خرج المتظاهرون للمناداة به، إن هؤلاء -أياً كان من وراؤهم- يريدون لمصر أن تستمر على وضعها المتأخر بين الأمم وبما لا يتناسب اطلاقاً مع إمكاناتها، وفي المقابل فإن شباباً يتسلحون بالعلم والتكنولوجيا وحب وطنهم يسعون إلى التغيير إلى الأفضل.
أليس غريباً أن وائل غنيم مدير التسويق الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في شركة «جوجل» العالمية وهو شاب في بداية الثلاثينات من عمره كان ممن حظوا بشرف المساهمة في قيادة هذه المظاهرات قبل أن يتم اعتقاله ثم الإفراج عنه أمس؟ ما الذي يدفع شاباً مثل وائل وفي مكانته الوظيفية والاجتماعية أن يقدم على الخاطرة بحياته ومستقبله – هو وغيره ممن شاركوا في هذه الثورة - إلا إيمانه بأن الإصلاح والديمقراطية والحرية كلها عوامل تؤدي إلى بيئة أعمال أفضل وبالتالي إلى الازدهار والرخاء الاقتصادي، والتوزيع العادل للثروة بما يضمن استقرار المجتمع والحفاظ على مكتسباته ومقدراته؟
خلاصة القول، إن ثمن الإصلاح وفاتورته تم دفعهما بالفعل، ولم يعد مطلوباً إلا الإسراع في خطوات نقل البلاد من هيمنة «البلطجية» والفاسدين و«المرتزقة» من أصحاب «غزوة البغال» إلى شباب ضحى بروحه من أجل حريتها ورخاء شعبها.
الدستور حرر في 8 فبراير 2011