لنقلْ كلمةً جانبية نظرية عن الأحداث الثورية في مصر، وهي أن ثورة تونس لن تجدَ لها نظيراً عربياً، وهي الثورة الناجحة بامتياز، ولم تستطعْ مصر تقليدها.
الأسباب لا تعود لعوامل جنسية وعرقية، بل لأمورٍ تعودُ للصراع الاجتماعي وعلله العميقة.
الصفاءُ التنويري العلماني الذي أوجده النظامُ التونسي السابق، وهيمنةُ مذهبٍ إسلامي توحيدي منفتحٍ متوارٍ في العلاقات العميقة لتقاليد الشعب، وغياب حتى التباينات القومية والدينية، والصفاء الطبقي بوجود طبقتين تحديثيتين ديمقراطيتين هما العمال والبرجوازية، ووجود ضباط كبار ديمقراطيين في الجيش، هذه هي بعض العوامل المهمة التي أمكنتْ للشعب أن يحسمَ أمرَهُ لمقاربة الحداثة الديمقراطية الغربية، وأن ينضمَ لشعوبِ التداول السلمي للسلطة في العالم، حسبما تشير إليه المقاربات الحالية على الأقل.
ومصر على الرغم من الحراك الثوري البطولي للشعب لم تكن لديها تلك العوامل السابقة، ولهذا فإن على المقلدين والمتحمسين للتجارب العاصفة الثورية أن يقرأوا الواقعَ بدقة.
إن الهبةَ التقليديةَ والحماسَ المتعطش للحرية والديمقراطية يجب ألا تنسى كذلك أن هذا دخول في نظام يظل طبقياً استغلالياً، فتونس لن تهرب من النظام الرأسمالي، ولن تقفز إلى عالم لاطبقي، وإلى اشتراكية الحلم!
ستظل في العلاقات الرأسمالية الاستغلالية التي تحددُها مستوياتُ تطورِها الانتاجي، لكن بشروطِ مراقبة الشعب وتحت إدارته وصراعه السلمي وخططه الاقتصادية وتعاونه وعلاقاته العربية والدولية، ومن دون وجودِ زوائد هائلةٍ من البيروقراطية الحكومية التي تستنزفُ الاقتصادَ في استغلالها وبطانتها ومؤامراتها ومؤتمراتها، وستحدث فيها تلك التداولية(الخارقة) المقصورة حتى الآن على الشعوب الحرة وهي تداولية السلطة، فمرة يكون الحكمُ للرأسماليين ومرةً أخرى للعمال، بحسبِ كل ما يقدمهُ هذا الطرف أو ذاك من مكاسب للجمهور الذي يحسمُ بالتصويت.
إن هذا التطور السياسي الكبير يريدُ مستوى متطوراً من الوعي السياسي الاجتماعي، وهو أمرٌ لم يتشكل بسهولة في تونس ولم يتابعه بقية العرب ورأوه فقط في إنجازه المبهر المقطوع عن التاريخ.
كانت تونس على خطى فرنسا الديمقراطية الثورية، وكانت مصر تنظر بعينٍ واحدةٍ لأوروبا وعين أخرى لمسار الجزيرة العربية.
مصر لم تكن لها قوى عمالية شعبية منظمة بمستوى اتحاد الشغل التونسي وصلابته، وتحكمهُ في النظام الاقتصادي الذي شل المؤسسات الاقتصادية الحكومية المتجبرة.
هناك فرقٌ بين اتحاد الشغل المناضل المعبر عن إرادةٍ عمالية صلبة وشارك الدولة في سلطتها خلال سنوات عديدة وبين النقابات المصرية الانتهازية في أغلبِ تاريخها، ولهذا لم تلعب النقابات المصرية أي دور في هذه الثورة الشعبية وتركتها تتحول إلى هبة مؤقتة، ولم يجد الشعب المصري وسائل ضغط كبرى سوى الاعتصامات والمظاهرات لكن تونس لم تكتف بذلك ودخل اتحاد الشغل في مبارزة اجتماعية سياسية كبرى أرغم فيها المسئولين السابقين على الخروج من السلطة.
مصر استمرتْ فيها المؤسسات الاقتصادية والسياسية والعسكرية تحاصر المعارضين والشباب البسيط الشجاع، ولم يظهرْ ضباطٌ ديمقراطيون في جيشها كذلك يشكلون مناورة تغيير كما فعل الجيش التونسي.
إذا أخذنا طابعَ الثورات الكبرى في المنطقة وأهمها الثورة الإيرانية فسنجد كيف ان المنظمات الإقطاعية الدينية هي التي سرقتْ الثورةَ الشعبية الكبرى، وحولتْ إيران لمجتمعٍ طائفي عسكري شمولي.
إذا أخذنا اليمن فسنجدُ العصبيات الطائفية والمناطقية وتكبيل النساء بآلاف القيود وهيمنة السحرة والدينيين وسيطرة القبائل وإقطاعيي المناطق وبؤس الوعي الشعبي القبلي اللاديمقراطي، يمنع تشكيل حتى مجتمع ديمقراطي أولي فما بالك بتكوين مجتمع ديمقراطي تحديثي علماني تداولي للسلطة؟!
الانتهازية القوية في الأحزاب والنقابات المصرية الرسمية المعروفة راحت تضرب الشباب الجريء المناضل وكانت أكثر خطورةً من ضربات الحكومة والبلطجية، عبر إيجاد مسارين للعمل السياسي الشعبي المعارض، متضادين، الأول يدخل في مسارات التفاوض والآخر يمتنع، ويطالب بمطلب رئيسي جوهري لا يقبل بالمماطلة فيه.
وكان خطأ الحركة الوطنية المصرية طوال تاريخها في النصف الأول من القرن العشرين ضد الاستعمار البريطاني هو دخولها في التفاوض الذي استمر عقوداً! لكن الحركة الوطنية المتجذرة رفعت شعار(الجلاء قبل التفاوض)، ثم أسس المفاوضون مناورات وضياعاً وتاهوا وتوهوا البلد.
وذلك كله يحول حركة الشباب إلى مجرد معرض في ميدان التحرير.
صحيفة اخبار الخليج
9 فبراير 2011