” لن أكابر وسأقدم التنازلات تلو التنازلات من اجل المصلحة الوطنية و سأقول لبيك لما يتم التوصل اليه عبر الحوار مع المعارضة “، ذلك بعض مما قاله الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في خطابه الأخير وهو يستشعر وضع نظامه في ظل المستجدات التي فرضتها إقليميا ثورة الشباب المنطلقة من ميدان التحرير في جمهورية مصر العربية ومن قبلها ثورة الياسمين في تونس، دعونا نقارب الموقف بصورة أكثر عمقا لما يمكن ان تكون الحالة اليمنية والمصرية والتونسية نماذج حية نطقت وتنطق به بوضوح مآلات واقعنا العربي تحديدا .
وقبل ان ندخل الى عمق ما احدثته التداعيات الأخيرة في المشهد المصري يجب القول بداية ان إنتفاضة الشارع المصري استدعت اهتماما عربيا وإقليميا مغايرا بكل المقاييس، نظرا لما تمثله مصر من ثقل استراتيجي هو الأهم في رسم واستشراف سيناريوهات المنطقة برمتها، بعد أن ألهمت ثورة الياسمين طموحات المصريين ومعهم الشارع العربي في ضرورة تحقيق نقلة نوعية ينتظر منها أن تنتشل واقعنا العربي من عثراته وسوقطه الذي إستمر لعقود طويلة، لم تحاول خلالها الأنظمة ان تستوعب او حتى تفهم طبيعة التحولات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، وما يمكن أن تحدثه من إنفجارات مدوية يصعب التكهن بعدها بمصير مجتمعاتنا التي يراد لها ان تكون دائما في حالة انتظار وترقب لوعود لا تنتج سوى مزيد التشرذم والخيبات التي انعكست على أكثر من صعيد لنجد أنفسنا في نهاية الركب وفي حالة تُشبه الإحتظار!
إذا لماذا تضطر الأنظمة السياسية الآن ان تُقدم على تنازلات تلو الأخرى وتقدم مبادرات لحلحلة بعض الأوضاع المعيشية وما شابه، وهي التي أصمت أذانها طويلا عن أن تسمع ما يمكن ان يجنبها الوصول الى هذه الحالة، ويحسب لقوى المعارضة السياسية في جميع دولنا العربية انها قدمت الكثير من المبادرات والمناشدات وعلى مدى سنوات طويلة دون ان يُسمع صوتها او أن تعطى أي إعتبار حقيقي، وإن أعطيت لها تلك الفرصة على مضض فانه سرعان ما يتم الالتفاف عليها وسرقة مكتسباتها القليلة والتعمد في إظهارها في موقع المستجدي وليس الشريك الحريص على مصلحة الناس والوطن ، كما تسهم الحكومات بفعلها هذا في تهميش وتأجيل وبالتالي تمييع القضايا المطلبية وأولويات الناس المعيشية والدستورية والحقوقية، وأن تكتسب قوى التشدد بسبب ذلك حضوتها لدى الشارع المعارض الذي ينتقل تلقائيا من موقع المعارضة المسؤلة الى مواقع تقترب من الانتقام وحتى الفوضى، ومكمن الخطورة ان ذلك عادة ما يترافق مع إضعاف وتغييب متعمد للقوى الوطنية والديمقراطية الحقيقية.
ولكي لا يصاب الناس بالاحباط والتململ والقنوط في القدرة على التغيير الإيجابي، حيث الفجوة أضحت كبيرة بين طموحاتهم وما يمكن للواقع السياسي أن يقدمه لهم، مما يحتم على الحكومات أن تبادر دون إبطاء للتعاطي بلغة ومنهج مختلف يعتمد الإستفادة من مستجدات العصر وتجارب الشعوب في الإستقرار والتنمية ويقرأ جيدا ما احدثته أدوات العصر من تحولات مهمة للغاية في لغة التخاطب بين قوى المجتمع مع بعضها ومع الحكومات، بدلا من الإستمرار في تكريس الاعتماد على القبضة الأمنية والجيوش الجرارة أو حتى إخافة الناس من سطوة بعض التيارات الدينية دون طائل، ولنا في ذلك تجارب وعبر، فتجربة ايران السافاك وما أنتجته من إعاقات لمسار التطور والحداثة داخليا وخارجيا، وتجربة تونس مع الدولة الأمنية، وتجربة اليمن في الإنفصال والوحدة القسرية وما أحاط بها مآس، وتجربة مصر مع دولة الطوارىء الممتدة لثلاثة عقود وما خلفته من فصول مؤلمة نعيش الآن تفاصيلها المرعبة، حيث كُرست تلك التجارب وغيرها وبتعمد لتحالفات قامت إما على سطوة المال والثروة أو إعتمدت هيمنة الحزب والقبيلة أو العائلة، لتخلق بدورها إعاقات جدية يصعب على مجتمعاتنا تفكيكها من دون خسائر كبيرة.
أمام هكذا وضع لا يمكن للإنظمة الإعمتاد بعد الآن على ذات الآساليب القديمة والمتهالكة والبائسة في آن لتسيير شؤون بلدانها، ولنقرأ جيدا ما قالته مؤخرا وزيرة الخارجية الأميركية من “ان منطقة الشرق الأوسط مقبلة على عاصفة هوجاء وحالة من الفوضى العارمة، خاصة وان الغالبية العظمى من سكانها هم من دون الثلاثين من العمر، وأن انظمة المنطقة لا تستطيع ان تمنع الموجة القادمة الا الى حين ولا سبيل امامها سوى الإصلاح والتحول نحو الديمقراطية … ”
إنها رسالة يجب ان تلتقطها الحكومات في منطقتنا العربية بجدية وان تستوعبها الأحزاب والقوى السياسية المخلصة ايضا، وهي إشارة يجب ان تضاف الى غيرها من الإشارات التي حتمتها تداعيات الأوضاع الأخيرة في منطقتنا، وليس من الحكمة ابدا ان يتم بعدها الإسترخاء او استخدام عامل الوقت والإكتفاء بشعارات ومبادرات تجميلية من شأنها إضاعة ما ينتظرنا من فرص علينا ان نلتقطها سريعا للتوافق بين الأنظمة والشعوب نحو البدء في مسيرة التغيير والتحول نحو الديمقراطية التي عُطلت طويلا، لتجنيب شعوبنا وبلداننا ويلات ومآس لا تحمد عقباها بعد الآن.