المنشور

مصر: الثورة والتغيير(7)

مشهدان متناقضان تفجرا في اليوم الثاني عشر من يوميات الثورة المصرية، والمشهد الأول هو بطولات وتضحيات الشعب العامل في الشوارع، وفي المطر والبرد، والجوع، وتحت الخيام، مصراً على تغيير النظام، ومنظر آخر هو ركض ممثلي الفئات الوسطى والصغيرة نحو دهاليز ومكاتب النظام للتفاوض والحوار، وهم ببدلاتهم وأناقتهم الشديدة وارتباكهم السياسي والفكري والتعبيري!
قال الشعب كلمته في الشوارع إنه لا تفاوض مع النظام إلا في حالة رحيل رئيسه الذي أوصل الأمور إلى هذه الأزمة الوطنية الكبرى وسيول الدماء والخسائر الاقتصادية.
مناورات النظام تجري لحفظ هذا المنصب ولإعادة الشعب لبيوته وهدوئه ولعدم تدخله في السياسة، ثم لتقوم النخب بإجراء المساومات والتنازلات وترتيب النظام المهيمن على هذه العامة!
النظام يوجه قدراته كلها للجم العامة، ولهزيمتها، وإعادة هذا العملاق لبيوته ونومه التاريخي الذي كان سعيداً به.
لكن الفئات الوسطى التي يسيل لعابها للمناصب والتي كانت نائمة في يخوتها ونواديها ومتعها وأحزابها (النضالية) ولم تفجر ثورة، ولم تنزل للشوارع، فجأة قفزت لكي تكون المتحدثة بلسان الثورة وآلام الفقراء!
من رئيس التجمع رفعت السعيد الذي تحدث إنه سوف يناضل لكي تكون ثمة معادلة دقيقة بين ارتفاع الأسعار وهبوط الأجور، ويتكلم بشكل باهت، إلى رئيس حزب الوفد السيد البدوي الذي يتحدث فجأة عن أعداء ألداء يهاجمون مصر وهي في خطر فلابد من حوار سريع مع الدولة.
والاخوان المسلمون كانت آلتهم الدعائية العالمية تشتغل وتحركهم وتخرجهم من التردد إلى القفز نحو السلطة.
مشهدان متناقضان: آلاف الشباب العامل حرك الأحداث وصنع التغيير بعد عقود من حراك التنظيمات النخبوية الفاشلة، ثم أصرَّ على عدم التفاوض وطالب بالتغيير وذهاب رأس النظام، وتعددت رؤى القوى الأخرى وقالت انها تريد تغيير رأس النظام لكنها سوف تتفاوض مع نوابه وهيئاته، وهو الذي يبدو مستمراً غيرَ مبالٍ بالتضحيات الجسيمة والحشود المنتظرة في البرد والجوع.
الفئات الوسطى معروفة بالتردد والمساومات، وهنا يبدو الفارق الجوهري بين الثورة التونسية التي قادتها الطبقة العاملة ومنظماتها النقابية والسياسية، والثورة المصرية التي تخضع دائماً للمساومات ومفاوضات الفئات الوسطى! والبناء المحافظ وهجرة أهل الريف الكثيفة للمدن وخاصة للعاصمة القاهرة، أوجد جواً محافظاً، فليس وجود المنظمات الدينية وكثافتها سوى تعبير عن جو ريفي محافظ كثيف هيمن على المدن، فيما قامت تونس بتمدين الريف ولعبت المساحة وكثافة السكان بطبيعة الحال دوريهما في ذلك، وهذا كله أضفى على التاريخ الراهن مظاهر مختلفة في كلا البلدين تعود لجذور كل منهما.
التاريخ الاجتماعي المصري عُرف دائماً بأسلوب المفاوضات، فقد استغرقتْ المفاوضات مع الاستعمار البريطاني ثلاثين عاماً للاستقلال، ولم يَعرف التاريخ المصري الحديث عمليات الحسم السريعة للصراعات.
وسيوجه النظام الحدث التاريخي لمساومات طويلة ويعرض تنازلات ومناصب حتى تزهق الجماهير في الشارع وخاصة في ميدان التحرير، فيما تتفكك اللحمةُ السياسية بين قوى المعارضة، ريثما يعود الوضع للهدوء وتظهر النيات الحقيقية.
وإلى متى سوف يستمر الشباب والعمال والبسطاء والنساء في تحمل هذه الظروف القاسية، من انعدام الأرزاق والراحة؟
وقد لاحظنا خلال الأيام الأخيرة كيف يتم تضييق ميدان التحرير وبدأت الأسواق والبنوك بالعمل، وكل هذا من أجل قيام الحكومة والنخب بالاستقلال بالأزمة من دون الضغوط الشعبية مع تذمر عدد من السكان من استفحال الصراع وتضييقه على طبيعية الحياة، وهو أمرٌ مُستغلٌ من الدولة.
وقد التحقت القوى السياسية والاجتماعية كافة بالحوار وطرحت أجندة عملية لحل الصراعات كبحث مسائل تغيير الدستور وهو أمرٌ يشير إلى أن شرعية ثورة 25 يناير انتهت أو في طريقها للانتهاء، فيما تستمر شرعية النظام العسكري.
وتجري صراعات بين الفريق الحكومي والفرق الشعبية المختلفة على هاتين الشرعيتين، فهل تسقط شرعية ثورة 25 يناير وتتحول إلى تمرد أو انتفاضة، ولم تصل لتغيير الطبقة الحاكمة خلال ثلاثين سنة بكل إرثها وفسادها والتهامها للموارد، أم تفعل ذلك وتزيل الشرعية العسكرية؟
هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.

صحيفة اخبار الخليج
8 فبراير 2011