تحدثنا في الحلقة الأولى عن تقلبات وتصاعد المزاج العربي العام في شارع متكهرب، ولكننا في هذه الحلقة سنركز حديثنا ليس على المزاج العربي وإنما الشارع العربي، إذ نجد خطابين سياسيين، الأول هو الخطاب الرسمي الذي بكل وسائل إعلامه يحاول طمأنة الناس عن أوضاعهم المعيشية وبوعود التحسينات في الأجور والأسعار والخدمات والسكن وبمزيد من الانفتاح والحريات، وفي ذات الوقت يؤكد لهم بأن التجربة التونسية «التونسة» ليس بالإمكان حدوثها في تلك الأنظمة، فلا نعرف هل تحاول تلك الأنظمة طمأنة نفسها أو إدخال قناعات جديدة في وعي الجماهير وشعبها بأن تلك الانفعالات والحماس الداخلي ينبغي لجمها وتبريد المزاج الشعبي الثوري والغليان نحو العقلانية والترشيد والهدوء والابتعاد عن الاضطرابات وعدم الاستقرار، فذلك الخطاب الرسمي كان هدفه تسويق الأنظمة «مشروع الطمأنة» في وقت كانت وراء الكواليس تجتمع قيادات وزعامات تلك الأنظمة لتدارس ما حدث في تونس ومدى انعكاسه على بلدانهم، ومن الضروري امتصاص الاحتقانات والتخفيف من أعباء المعيشة الضاغطة.
يحاول الإعلام العربي والمؤسسات المتعددة الأوجه تقديم صورة مغلوطة عن الشارع العام بكل نخبه وشرائحه، متغافلة عن حقائق يومية ملموسة، محاولة تلك الأجهزة دائما تصوير الشارع السياسي العربي على انه، أما مأجور بقوى خارجية أو إرهابية أو فوضوية ونعته بكل الأشياء والصفات إلا صفة انه شعب لديه مطالب عادلة في مواجهة أمن يحاول إغلاق عينيه عن تلك الحقائق، تاركا زمام الأمور لأجهزة صارت بطانة همها الأول تكديس ثروة مستعجلة من النظام، ولا يهمها أن تقدم حقائق في الشارع، حتى وإن كانت تفسد مزاج الزعماء في منامهم ويقظتهم، لكي ينتبهوا للقادم. ونتيجة تقارير من أجهزة فاسدة مغلوطة تتراكم المشاكل وتتعمق التناقضات حتى لحظة الانفجار، وكأن الثورة أو الانتفاضة خرجت كالسحر من الزجاجة، وبأن الشيطان هو وحده من يحركها، دون الاعتراف بحقائق تاريخية ودروس كثيرة كانت وراء تلك الانفجارات في المجتمعات. لا يخرج شيطان الثورة للشارع بفعل قوى مجهولة وشعوذة، بقدر ما هناك من عوامل موضوعية وشروط سياسية ومجتمعية، تنتج تلك الثورات «اللعينة!» التي كثيرا ما اتهمتها الثورة المضادة بثورة «الغوغاء»، ولكن كل تلك النعوت لم تجد ولم توقف السيل المنهمر بقوة من قمم الجبال البعيدة، ما نراه اليوم من تفاعلات متباينة في ذلك الشارع العربي، دون شك له خصائصه المحلية وله سماته العربية العامة والإنسانية أيضا، فقبل الانفجار التونسي لم يكن الشارع العربي ومزاجه هادئا ومستكينا، وإنما كانت تلك الانفجارات الجزئية تحدث هنا وهناك.
وفي نطاق جغرافي ومكاني ومهني محدود، يستجمع فيها الاستعداد للماء ليصب ذلك الاحتجاج الجزئي في النهر العام من الانفجار الجماهيري.
كانت المغرب العربي دائما مشتعلة بالصدامات، واليمن والأردن ولبنان والسودان وموريتانيا، غير أن التفاوت في طبيعة تلك الاحتقانات وطبيعة تناسب القوى بين الشارع والأنظمة يعطل ويؤجل مثل تلك التناقضات، ناهيك عن سرعة بعض الأنظمة على امتصاص ذلك الاحتقان والاستعجال باتخاذ إجراءات وقرارات إدارية تعالج تلك الأزمة، ولو عن طريق «التسكين» المؤقت للألم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، تاركة المعالجة الفعلية لاحقا، ولكنها سرعان ما تهمل السلطة تلك العلاجات الناجمة والجذرية، متوهمة أن الهدوء الظاهري للمجتمع هو المؤشر الكافي، على أن الأوضاع باتت بخير، فيما التناقضات الفعلية ماتزال كامنة في بنية النظام السائد، الذي تستبقه الأحداث بدلا من استباقها في درء أخطار انفجارات ليست محمودة من الجميع، إذ لم تر في تلك الحلول الترقيعية المؤقتة مفعولها القادم، تاركة الأجهزة الفاسدة تعيث فسادا وتثرى ثراء فاحشا، بينما الأجهزة بتقاريرها المفبركة والمعسولة قادرة على طمأنة «الزعيم» بأن دولته تشهد ازدهارا ورخاء لا نظير له في العالم، حيث الأجهزة تلعب بماكياج الكذب وبارتداء الأقنعة. الشارع العربي ليس منسجما ولا متجانسا ولا يمكن أن يكرر التجربة التونسية بكل خطوطها وتفاصيلها، ولكن لكل شعب تجربته وإبداعه وقدراته في انجاز أحلامه في التغيير. الخطأ السياسي التاريخي للأنظمة الاستبدادية هو أنها لا تستطيع قراءة الصمت والخوف والكراهية عندما يكون مكتوما، فقط تكتشفه وتراه بوضوح لحظة انهيار النظام المستبد. أنظمة هنا وهناك من العالم النامي مرشحة للانفجار، وليس ما يحدث في الشارع العربي إلا تمرينا عاما لقادم الأيام.
صحيفة الايام
8 فبراير 2011
يحاول الإعلام العربي والمؤسسات المتعددة الأوجه تقديم صورة مغلوطة عن الشارع العام بكل نخبه وشرائحه، متغافلة عن حقائق يومية ملموسة، محاولة تلك الأجهزة دائما تصوير الشارع السياسي العربي على انه، أما مأجور بقوى خارجية أو إرهابية أو فوضوية ونعته بكل الأشياء والصفات إلا صفة انه شعب لديه مطالب عادلة في مواجهة أمن يحاول إغلاق عينيه عن تلك الحقائق، تاركا زمام الأمور لأجهزة صارت بطانة همها الأول تكديس ثروة مستعجلة من النظام، ولا يهمها أن تقدم حقائق في الشارع، حتى وإن كانت تفسد مزاج الزعماء في منامهم ويقظتهم، لكي ينتبهوا للقادم. ونتيجة تقارير من أجهزة فاسدة مغلوطة تتراكم المشاكل وتتعمق التناقضات حتى لحظة الانفجار، وكأن الثورة أو الانتفاضة خرجت كالسحر من الزجاجة، وبأن الشيطان هو وحده من يحركها، دون الاعتراف بحقائق تاريخية ودروس كثيرة كانت وراء تلك الانفجارات في المجتمعات. لا يخرج شيطان الثورة للشارع بفعل قوى مجهولة وشعوذة، بقدر ما هناك من عوامل موضوعية وشروط سياسية ومجتمعية، تنتج تلك الثورات «اللعينة!» التي كثيرا ما اتهمتها الثورة المضادة بثورة «الغوغاء»، ولكن كل تلك النعوت لم تجد ولم توقف السيل المنهمر بقوة من قمم الجبال البعيدة، ما نراه اليوم من تفاعلات متباينة في ذلك الشارع العربي، دون شك له خصائصه المحلية وله سماته العربية العامة والإنسانية أيضا، فقبل الانفجار التونسي لم يكن الشارع العربي ومزاجه هادئا ومستكينا، وإنما كانت تلك الانفجارات الجزئية تحدث هنا وهناك.
وفي نطاق جغرافي ومكاني ومهني محدود، يستجمع فيها الاستعداد للماء ليصب ذلك الاحتجاج الجزئي في النهر العام من الانفجار الجماهيري.
كانت المغرب العربي دائما مشتعلة بالصدامات، واليمن والأردن ولبنان والسودان وموريتانيا، غير أن التفاوت في طبيعة تلك الاحتقانات وطبيعة تناسب القوى بين الشارع والأنظمة يعطل ويؤجل مثل تلك التناقضات، ناهيك عن سرعة بعض الأنظمة على امتصاص ذلك الاحتقان والاستعجال باتخاذ إجراءات وقرارات إدارية تعالج تلك الأزمة، ولو عن طريق «التسكين» المؤقت للألم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، تاركة المعالجة الفعلية لاحقا، ولكنها سرعان ما تهمل السلطة تلك العلاجات الناجمة والجذرية، متوهمة أن الهدوء الظاهري للمجتمع هو المؤشر الكافي، على أن الأوضاع باتت بخير، فيما التناقضات الفعلية ماتزال كامنة في بنية النظام السائد، الذي تستبقه الأحداث بدلا من استباقها في درء أخطار انفجارات ليست محمودة من الجميع، إذ لم تر في تلك الحلول الترقيعية المؤقتة مفعولها القادم، تاركة الأجهزة الفاسدة تعيث فسادا وتثرى ثراء فاحشا، بينما الأجهزة بتقاريرها المفبركة والمعسولة قادرة على طمأنة «الزعيم» بأن دولته تشهد ازدهارا ورخاء لا نظير له في العالم، حيث الأجهزة تلعب بماكياج الكذب وبارتداء الأقنعة. الشارع العربي ليس منسجما ولا متجانسا ولا يمكن أن يكرر التجربة التونسية بكل خطوطها وتفاصيلها، ولكن لكل شعب تجربته وإبداعه وقدراته في انجاز أحلامه في التغيير. الخطأ السياسي التاريخي للأنظمة الاستبدادية هو أنها لا تستطيع قراءة الصمت والخوف والكراهية عندما يكون مكتوما، فقط تكتشفه وتراه بوضوح لحظة انهيار النظام المستبد. أنظمة هنا وهناك من العالم النامي مرشحة للانفجار، وليس ما يحدث في الشارع العربي إلا تمرينا عاما لقادم الأيام.
صحيفة الايام
8 فبراير 2011