عن أي مزاج نود التحدث فيه؟ وعن أي شارع عربي مقصود؟ دون شك إن السؤالين مترابطان رغم اختلافهما، فالمزاج الذي نود التحدث عنه هو المزاج العام، والذي تختلط فيه الأمزجة طالما إننا حددنا «موضوعة العام»، حيث الأمزجة المتعددة تتشابك في الجوهر وتنفصل في داخلها كلما أمعنا في خصائص تلك الأمزجة الجماهيرية، التي بها من الفئات والشرائح والطبقات المتباينة، ولكنها اليوم صارت الأغلبية الكاسحة منها تفرض أجندتها على البنى الفوقية وعلى قيم المجتمع ووعيه، تفرض نفسها لكونها الأكثر تأثرا بالوضع المعيشي السيئ، فيما تلتقي تلك الشرائح الدنيا دائما مع طبقات وفئات أخرى اليوم في موضوعة الديمقراطية والحريات وإرساء دولة العدل والتوزيع ومناهضة الفساد ورفض كل أشكال الحجر على الحريات والمواطنة واحترام كرامتها، فالطبقة الوسطى وما دونها بل وفي الطبقات العليا، صارت تلتقي في نقاط مشتركة مع الغالبية العظمى من الشعب في الحقوق المشتركة وتنفصل عنها في قضايا مختلفة، فالفساد يمس مصالحها مثلما يمس المجتمع برمته، والقمع وكتم أنفاس الإنسان باتت في عصرنا مرفوضة، إذا ما ربطناها اليوم بمرحلة الثورة المعلوماتية، من هنا سنكتشف مدى الحالة الشعورية والانفعالية العامة في المجتمعات العربية، وكيف كان مزاجها فرحا بالانتفاضة التونسية، التي تصاعد مداها حتى بلغت الثورة الشعبية العارمة، وكأن الحالة التونسية تعبير عام عن ذلك المزاج المضطرب والمضطرم، بل ووجدنا ـ داخل نطاق الإعلام الرسمي والجامعة العربية ـ التحفظ إزاء ما يدور في تونس ـ ، فيما كان التهكم والحماس والفرح في المواقع الالكترونية والمقاهي والأمكنة الشبابية والشعبية والمهنية، هو سيد ذلك الوضع، وحالما بدت ملامح الانهيار التدريجي في هرم النظام التونسي صرنا نسمع ونقرأ مفردة متأخرة مفادها «احترام إرادة الشعب التونسي» وطبعا تلك الإرادة كانت مقموعة ولم تلتفت إليها لا الحكومات ولا الشعوب العربية، إذ كانت ثنائية العلاقة الرسمية ـ الشعبية منقسمة على نفسها، فالأنظمة الرسمية تتعاضد مثلما الشعوب المقموعة تتضامن أيضا، ومن هنا نفهم ذلك المزاج العام كيف يتبلور ويصبح أكثر كريستالية ونفاقا وحماسا وتهورا في سلة الثقافة الشعبية، لكون النخب والجماعات موزاييك متباين ومصالح متباينة وأفكار ووعي مختلف ومتباين أيضا.
كنا نرى التحفظ الإعلامي واضحا في مفردات كريهة تشمئز منها الأنظمة، فبتنا نقرأ عن الوضع التونسي عبارة «الرئيس المقال، الرئيس المتنحي»، فيما كانت الانتفاضة الشعبية تدك النظام بقوة وبسرعة مذهلة فخجل الإعلام وخجلت الأنظمة مثلما خجلت الجامعة العربية مما فعله الرئيس التونسي، فصارت بعضها تكتب عبارة الرئيس «المخلوع !!» ولكي تكون أكثر مقاربة مع الواقع زادت من جرعة الحقيقة بقول «الرئيس الهارب» أو الفار، وتحولت بعد ذلك كل الأمزجة بعد اتضاح الحقيقة، تساند مزاج حقيقي شعبي ليس في تونس وحدها بل ووجد نفسه ملتحما مع المزاج العام في الشارع العربي، فيما راحت محطة الجزيرة تنفخ بطريقتها، التي دون شك أغضبت البعض وأفرحت البعض الآخر، إذ صارت كل قوى المجتمع المدني وغيرها تمارس نوعا من «الإسقاط السياسي» على واقعها محاولة إرسال رسائلها للسلطات بضرورة استيعاب واستلهام الدرس التونسي من زوايا متعددة.
كان المزاج العام المتفاوت في الأقطار العربية مندفعا بين حالة المد النسبي والجزر النسبي، وكلما التهبت النيران في تونس وصل لهيبها للمزاج العام الداخلي والخارجي، وكأنما الثورة الشعبية في تونس تحرك جذوة النار الهادئة في تربة ومناخات عربية مختلفة، بل وأمزجة مختلفة، اتفقت على كراهيتها للاستبداد والفقر والفساد، محاولة البحث عن التغيير نحو حياة أفضل.
صار المزاج العام منفلتا في فرحه وحماسه، دون أن يدري ما الذي يفعله، حتى بلغ ذلك المزاج والحماس والانفعال محاولة التقليد الميكانيكي لإشعال محتجين أنفسهم، لعجلة الاحتراق فيها ليس واحدا، فلم تكن محاولة تقليد البوعزيزي جديرة بالاهتمام والتأثير إلا بشكل عابر، حيث نسى المحترقون ان البوعزيزي كان عود ثقاب لغابة تنتظر الحريق، فليس كل الغابات سريعة الاشتعال! المزاج العام في الشارع العربي كان فرحا ومتحفظا لدى النخب العليا والقريبة لمراكز السلطة في بلدانها، ولكنها في داخلها وفي جلساتها المغلقة تزيح عن وجهها قناع الخوف والنفاق، إذ عيب الأنظمة الاستبدادية هو خنق كل المجتمع، مما تجعل مزاجه السياسي العام يحتقن بشكل مكثف، فتتخمر كل عوامل الغضب والكراهية، فيما عدا حلقة ضيقة تتحلق ذلك النظام الفاسد والمستبد.
ذكرتني تلك الأمزجة الشعبية بمزاج العرب الكروي والانتصارات غير المتوقعة في أهداف المباريات، هكذا فاجأت الثورة التونسية في منجزها الثوري، الشارع العربي غير أنها ماتزال في منتصف الطريق لاستكمال مشروعها في كنس اصطبلات اوجياس، وتهديم كل أسس النظام القديم واستبداله بنظام جديد مختلف، تكون فيه حركة الجماهير قد قطعت علاقتها بكل مكونات ذلك القديم القابل لإشعال الثورة المضادة في لحظة من غفلة الثورة عن أعدائها الحقيقيين.
في هذه المناسبة التونسية تصبح قراءة كتاب عشرة أيام هزت العالم حول الثورة الروسية أكثر من ضرورية لفهم الحياة في ظروف عاصفة وليس هادئة كالثورات.
إن الثورة تتألف من فصلين: هدم النظام القديم وإقامة نظام للحياة جديد. وقد طال الفصل الأول كثيرا إلى ما فيه الكفاية. وحان وقت الشروع في الثاني، وينبغي القيام به بأسرع ما يمكن، فان ثوريا عظيما كان يقول ـ يقصد المؤلف لينين ـ-: «لنعجل، أيها الأصدقاء، في إنهاء الثورة: فمن يفرط بإطالة الثورة لا يقطف ثمارها…» وما جنته الجماهير في تونس حتى الآن اقل من نصف تلك الثمار، فالثورة بالإمكان سرقتها كما حدث في التاريخ مرارا، وحرفها عن مسارها وأهدافها نتيجة الثورة المضادة، وبسبب نهج العقلية المغامرة والفوضوية التي تغذيها الثورة المضادة في تلك الساعات.
صحيفة الايام
6 فبراير 2011
كنا نرى التحفظ الإعلامي واضحا في مفردات كريهة تشمئز منها الأنظمة، فبتنا نقرأ عن الوضع التونسي عبارة «الرئيس المقال، الرئيس المتنحي»، فيما كانت الانتفاضة الشعبية تدك النظام بقوة وبسرعة مذهلة فخجل الإعلام وخجلت الأنظمة مثلما خجلت الجامعة العربية مما فعله الرئيس التونسي، فصارت بعضها تكتب عبارة الرئيس «المخلوع !!» ولكي تكون أكثر مقاربة مع الواقع زادت من جرعة الحقيقة بقول «الرئيس الهارب» أو الفار، وتحولت بعد ذلك كل الأمزجة بعد اتضاح الحقيقة، تساند مزاج حقيقي شعبي ليس في تونس وحدها بل ووجد نفسه ملتحما مع المزاج العام في الشارع العربي، فيما راحت محطة الجزيرة تنفخ بطريقتها، التي دون شك أغضبت البعض وأفرحت البعض الآخر، إذ صارت كل قوى المجتمع المدني وغيرها تمارس نوعا من «الإسقاط السياسي» على واقعها محاولة إرسال رسائلها للسلطات بضرورة استيعاب واستلهام الدرس التونسي من زوايا متعددة.
كان المزاج العام المتفاوت في الأقطار العربية مندفعا بين حالة المد النسبي والجزر النسبي، وكلما التهبت النيران في تونس وصل لهيبها للمزاج العام الداخلي والخارجي، وكأنما الثورة الشعبية في تونس تحرك جذوة النار الهادئة في تربة ومناخات عربية مختلفة، بل وأمزجة مختلفة، اتفقت على كراهيتها للاستبداد والفقر والفساد، محاولة البحث عن التغيير نحو حياة أفضل.
صار المزاج العام منفلتا في فرحه وحماسه، دون أن يدري ما الذي يفعله، حتى بلغ ذلك المزاج والحماس والانفعال محاولة التقليد الميكانيكي لإشعال محتجين أنفسهم، لعجلة الاحتراق فيها ليس واحدا، فلم تكن محاولة تقليد البوعزيزي جديرة بالاهتمام والتأثير إلا بشكل عابر، حيث نسى المحترقون ان البوعزيزي كان عود ثقاب لغابة تنتظر الحريق، فليس كل الغابات سريعة الاشتعال! المزاج العام في الشارع العربي كان فرحا ومتحفظا لدى النخب العليا والقريبة لمراكز السلطة في بلدانها، ولكنها في داخلها وفي جلساتها المغلقة تزيح عن وجهها قناع الخوف والنفاق، إذ عيب الأنظمة الاستبدادية هو خنق كل المجتمع، مما تجعل مزاجه السياسي العام يحتقن بشكل مكثف، فتتخمر كل عوامل الغضب والكراهية، فيما عدا حلقة ضيقة تتحلق ذلك النظام الفاسد والمستبد.
ذكرتني تلك الأمزجة الشعبية بمزاج العرب الكروي والانتصارات غير المتوقعة في أهداف المباريات، هكذا فاجأت الثورة التونسية في منجزها الثوري، الشارع العربي غير أنها ماتزال في منتصف الطريق لاستكمال مشروعها في كنس اصطبلات اوجياس، وتهديم كل أسس النظام القديم واستبداله بنظام جديد مختلف، تكون فيه حركة الجماهير قد قطعت علاقتها بكل مكونات ذلك القديم القابل لإشعال الثورة المضادة في لحظة من غفلة الثورة عن أعدائها الحقيقيين.
في هذه المناسبة التونسية تصبح قراءة كتاب عشرة أيام هزت العالم حول الثورة الروسية أكثر من ضرورية لفهم الحياة في ظروف عاصفة وليس هادئة كالثورات.
إن الثورة تتألف من فصلين: هدم النظام القديم وإقامة نظام للحياة جديد. وقد طال الفصل الأول كثيرا إلى ما فيه الكفاية. وحان وقت الشروع في الثاني، وينبغي القيام به بأسرع ما يمكن، فان ثوريا عظيما كان يقول ـ يقصد المؤلف لينين ـ-: «لنعجل، أيها الأصدقاء، في إنهاء الثورة: فمن يفرط بإطالة الثورة لا يقطف ثمارها…» وما جنته الجماهير في تونس حتى الآن اقل من نصف تلك الثمار، فالثورة بالإمكان سرقتها كما حدث في التاريخ مرارا، وحرفها عن مسارها وأهدافها نتيجة الثورة المضادة، وبسبب نهج العقلية المغامرة والفوضوية التي تغذيها الثورة المضادة في تلك الساعات.
صحيفة الايام
6 فبراير 2011