يوم الخميس الماضي وبينما كانت 11 مليار دولار تتبخر في دقائق داخل قاعة التداولات بالبورصة المصرية، اتصل بي من القاهرة صديق عزيز يشغل منصب مدير الاستثمار في إحدى شركات الوساطة صارخاً: «البورصة تنهار، اقتصاد البلد ينهار.. ما يحدث ليس في مصلحة أحد».
لم تفلح محاولاتي في تهدئة صديقي، بل ازداد غضبه عندما أخبرته أن «هناك ثمناً للإصلاح، يجب أن يُدفع».
ما من شك في أن للاحتجاجات العارمة التي تشهدها مصر منذ أسبوع معارضين، وأفراد من هؤلاء المعارضين ينتمون إلى الفئة التي كان يحلو للحكومة المقالة أن تستشهد بهم في سياق حديثها عما أسمته «دلائل رفاهية المواطنين» عندما ذكرت في تقارير رفعتها إلى البرلمان أن هناك عشرات آلاف السيارات الجديدة اشتراها مصريون خلال عام، وهناك رقم مثيل من مكيفات الهواء ، وزيادة ملحوظة في حجم المخلفات (القمامة) التي يلقيها المصريون في الشوارع كل يوم. وفي ذات الوقت تغض نظرها عن أن عوائد معدلات النمو المرتفعة التي حققها الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة لم تصل إلى السواد الأعظم من المصريين الذين يعيش نصفهم بأقل من دولارين يومياً، وفقاً لتقديرات تقارير البنك الدولي.
هناك فاتورة ضخمة تدفعها مصر الآن، ولكنها فاتورة واجبة، بعد عقود طويلة من محاولات الإصلاح البطيء الذي أثبت عدم جدواه، بدليل خروج هذه الحشود الهائلة إلى الشوارع تطالب بالتغيير، حسبما نقلت شاشات الأخبار.
ومهما بلغت قيمة هذه الفاتورة، فهي لا تقارن بالأموال المهدرة المقدرة بعشرات مليارات الدولارات التي تخسرها البلاد سنوياً من جراء تفشي الفساد والمحسوبية وتزاوج المال بالسلطة، وتهرب رجال أعمال كبار من الضرائب، وبيع أراضي الدولة بأسعار يثير تدنيها وانخفاضها الدهشة.
ويضاف إلى ذلك ما يسمى بتكلفة الفرص البديلة سواء في المشروعات العامة التي تنفذها الحكومة أو في الأموال التي يدفعها القطاع الخاص من «تحت الطاولة» لتسيير أعماله، كبديل غير قانوني عن الدوران في دائرة البيروقراطية الجهنمية.
والاقتصاد المصري أيضاً يخسر المليارات كل عام، بسبب سوء إدارة أصول وممتلكات وشركات الدولة، ومواردها الطبيعية، كما يخسر أيضا مليارات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية والعربية التي تمتنع عن دخول البلاد بسبب عدم وضوح الرؤية المستقبلية على المستوى السياسي، فيما يعرف بـ«المخاطر السياسية للاستثمار».
قد يجادل البعض بأن البديل في حال نجح المحتجون في فرض مطالبهم غير مضمون، وغير معروف، ولا أجزم هنا أنني على يقين أن «الأفضل قادم» وخصوصاً في ظل الموقف المعقد الحالي، ولكن ما يمكن قوله إن هذه الاحتجاجات العارمة حررت المصريين من حواجز كثيرة تراكمت بداخلهم على مدى عقود، وجعلتهم أكثر حرصاً على وطنهم، وأكثر إصراراً على قيادة بلدهم إلى المكانة التي تستحقها بين الأمم المتقدمة، وهؤلاء لن يسمحوا مجدداً، ومهما كان سيناريو المستقبل، بتفشي الفساد أو التربح من المناصب العامة، أو سوء إدارة مقدرات البلاد. وهؤلاء أيضاً سيكونون أكثر انتاجاً، كل في موقعه، وسيكونون أكثر حرصاً على ممتلكات الدولة، وسيلفظون من بينهم كل مرتشٍ أو متربح، ودليلي على ذلك اللجان الشعبية التي شكلها المحتجون لحماية المملتكات العامة والخاصة، وإدارة المرور في الشوارع، بعد الفراغ الأمني الذي تركه الإنسحاب الجماعي المفاجئ والمثير للجدل لرجال الشرطة، كما تناقلت وكالات الأنباء.
نعم إن ثمن الإصلاح باهظ، ولكنه لا يقارن بما يضيع سنوياً على البلاد جراء غيابه، ولا يقارن أيضاً بالمكاسب المتوقعة حال إعادة وضع القطار على قضبانه في الاتجاه الصحيح.
أعرف أن ما كتبته لن يعجب صديقي مدير الاستثمار، ولن يعجب كثيرين غيره ممن يصلهم بعض «فتات» ما أسمته الحكومة المقالة «الازدهار الاقتصادي»، ولهم أقول إن الخسائر الناجمة عن محاولات الإصلاح «مؤقتة» وسرعان ما ستعود الأوضاع أفضل مما كانت، أو هكذا أتمنى.
موقع الجيران 4 فبراير 2011